الجيش وحده فسحة الأمل…
علي بدر الدين
من يظنّ، أو يعتقد أنّ لبنان مقبل في الآتي من الزمن على مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي فهو مخطئ وواهم، لأنّ الخط البياني للأزمات، وتراكم الخلافات على المصالح والمواقع والسلطة والمال بين السياسيين والطوائفيين والمذهبيين في تصاعد ينبئ بالآتي الأعظم. إذا لم يبادروا جميعاً إلى كبح جماحهم والتخفيف من سرعة اندفاعهم وحماسهم الزائد، ووضع حدّ لخطابهم التعبوي التحريضي وتسخيره لغايات وأطماع تعنيهم من دون غيرهم، وتحصِّنهم في مربّعاتهم وأبراجهم وبين أكوام ثروات لا تعدّ ولا تحصى. ولبنان الذين باسمه يحكمون ويتحكّمون مديون بأكثر من 60 مليار دولار.
والأكثر خطراً على لبنان هو الإرهاب الذي يضربه، ويهدّد وحدته، ويهدف إلى الإيقاع بين مكوّناته السياسية وتلاوينه الطائفية والمذهبية وإلى تقويض مؤسساته وفي مقدمها المؤسسات العسكرية والأمنية، هذه الأخطار الواقعة والداهمة من الداخل والخارج الإقليمي والدولي الذي يبحث عن مصالحه على اختلافها، من دون أي اعتبار لمصالح الدول والشعوب التي تعاني، هذا كله يعني أنّ لبنان ليس فقط في عين العاصفة إنما في قلبها وهي تنذر بسوء «العاقبة» والمستقبل المظلم. وبالتالي السقوط المدوّي في ظلّ طغيان الفوضى إذا انهارت المؤسسات، ونشأت «الكانتونات» وتعززت الولاءات الشخصية والحزبية، وهذا يعني أيضاً انفراط العقود والقوانين والأنظمة التي لم تعد تصلح للحالة المستجدة.
ربما هذا الاستنتاج يعطي صورة قاتمة وسوداوية لمصير الوطن وحال المواطنين، ليس القصد تماماً. بل هو إنذار مبكر وتحذير قائم على الوقائع والمعطيات الميدانية والسياسية والهجمة الإرهابية على لبنان وهي الأخطر منذ تكوّنه، إنه جرس تنبيه لبعض الأفرقاء اللبنانيين الذين يفصّلون الأمور على قياسهم ويحيكون المواقف والقرارات، وفق توجهاتهم ومصالحهم، ويتحكّمون في كلّ شاردة وواردة وينصّبون أنفسهم أصحاب الحلّ والربط والقرار مع أنه بات عليهم أن يخلعوا عباءاتهم ويكشفوا عن وجوههم، ويخرجوا من قمقم الخطأ الوطني والسياسي ومن العزلة والانكفاء والاختباء وكأنهم يعيشون في جزر نائية أو في كوكب آخر. ويتركون وطنهم تتآكله الصراعات وشعبهم تمزقه خلافات السياسيين ومصالحهم ويداهمه الفقر وتغتاله رصاصة طائشة من العصابات المسلحة التي تروّع السكان في أزقّة تعيسة، ربما تكون خارج الزمان والمكان. وهم منها مجرّد تعداد قد لا يلزم سوى أصوات اقتراع لزعماء وقادة هم سبب إفقاره وتعاسته، وشلل مؤسسات الدولة وتراجعها عن دورها الوطني خدماتياً وإنمائياً ودستورياً وسياسة تفي بالحاجة المطلوبة وتوحد اللبنانيين من خلال التوافق والتعاون والذوبان في مصلحة الوطن، وليس من خلال استدراج عروض وتلزيمات من هنا وهناك لتأزيم الأوضاع بكلّ ما فيها من ملفات خلافية بات من الصعب على أيّ كان أن ينجح في إحداث ثقب في جدارها الذي تعاون الجميع عن قصد أو غير قصد على بنائه واستعماله جدار مبكى مع كلّ تأزم جديد أو مأزق يصعب الخروج منه.
ما نحن فيه اليوم من واقع مأساوي بل كارثي في الأمن والسياسة والاقتصاد والصحة والتربية والتعليم، هو نتاج لتراكم السياسات الخاطئة والحسابات الخاصة وسيادة المصالح الضيّقة التي جميعها أعمت الأبصار والبصائر عن رؤية الحقيقة وعن حجم تداعيات الانزلاق باتجاه المجهول الذي سيحطم في طريقه ما سُمّي بصيغة التعايش أو العيش المشترك أو عموماً الصيغة اللبنانية المزيّفة والمزوّرة ولأنها كذلك لم تعد صالحة لتغطية الارتكابات والنفاق والألاعيب الطائفية والمذهبية والوطنية والمصلحية والوعاء الذي فاض تكاذباً ومجاملة ومشاعر جياشة بدأ منذ زمن ينضح بما فيه، فأظهرت بوضوح وواقعية الثغائية تطفو على مجاري الأنهر التي فاضت بها وأصبحت نهايتها محتومة في مكانها الطبيعي حيث لا دور لها ولا فائدة مرجوة منها ولا قدرة لها على تصويب البوصلة وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إنها الحتمية التاريخية.
«ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل» قول مأثور لا يزال اللبنانيون يتمسكون به رغم ضبابية الأوضاع السياسية والإنمائية والأمنية، والشلل الذي يضرب في مفاصل الدولة، وانشغال الأفرقاء عن قصد مبرمج، ومعدٍّ سلفاً «سيناريوات» مختلفة لجلسة التمديد للمجلس النيابي وبميثاقيته وضروراته حتى «لا نقع» في الفراغ الذي يتحكم بالوطن والمواطن منذ أمدٍ، ويبدو أنّ التهويل مطلوب لإمرار التمديد مكافأة للنواب الذين برعوا وأبدعوا في سياق وظيفتهم التشريعية والوطنية.
ونسجل للأفرقاء اقتناعهم بعدم إثارة انتخابات رئاسة الجمهورية لأنهم يعرفون أنها مرتبطة مباشرة في مواقع القرار الإقليمي والدولي، ولا قيمة لأيّ حراك في هذا الشأن، لأن لا طائل منه ولا جدوى. والعجز عن ولوجها بات سمة تطبع نهج الرهانات والارتباطات الخارجية الذي اعتمده بعض الأفرقاء اللبنانيين.
المؤسسة العسكرية التي تخوض معركة وطنية بامتياز، معركة وجود لبنان، وتواجه الإرهاب والإرهايبين من داخل الحدود وخارجها هي الأمل والمرتجى والمنقذ للبنان وصونه وحماية لشعبه ليس بالسياسة، بل بالتضحيات وبالأرواح والدماء التي تسيل زكية طاهرة على أرض الوطن.
هذه المؤسسة الرمز الوطني أثبتت قدرة قيادتها وضباطها وعناصرها على تحقيق الانتصارات والإنجازات الأمنية والعسكرية النوعية، وعلى وأد الفتن المتنقلة واستئصال الإرهاب من جذوره وتجفيف منابعه وإغلاق مخائبه وأوكاره الإجرامية. وهي بفعل قسَم ضباطها ورتبائها وجنودها وترجمته للذود عن حياض الوطن واقتحام الأخطار هي الملاذ الآمن والضامن للأمان، والمطمئنة لوحدة لبنان واللبنانيين ولحاضرهم ومستقبلهم، والعابرة للطوائف والمذاهب والمصالح والعشائر والقبائل والأفخاذ وغيرها من مسمّيات التقسيمات البشرية التي تهتمّ بكلّ شيء وتهمل الإنسان وقداسته وحريته وكرامته وحقه في الحياة أن يكون آمناً مستقراً ينعم بالسلام والاطمئنان.
وحدة الجيش بعقيدتيه الوطنية والقتالية وترجمة قسمه شهادة ودماً وتضحيات جسام، يبقى الأمل الذي ينشده اللبنانيون والذي يحميهم من تلكؤ السياسيين وعجزهم عن إدارة شؤون البلاد والعباد بعد أكثر من ستة عقود مزدحمة بالصراعات والحروب والفتن والإخفاقات ويبدو أن لا نهاية قريبة لها.