الوطن… الملبّد بالغيوم السوداء
د. سلوى خليل الأمين
اكفهّرت السماء وتلبّدت بالغيوم السوداء، وبدأ قصف الرعد يشنّف الآذان ويرعب الأطفال ويقلق نومهم، إضافة إلى لمعات برق أضاءت السماء والساحات كما لم تضئها أنوار المصابيح الكهربائية المنتشرة بكثرة في شوارع المدن والقرى المحظوظة، بحيث كان المطر البشارة أو البلاغ رقم واحد، الذي يبشرنا بقدوم الخير والعافية إلى جيوب المواطن المرهقة من الطفر، فالمطر مطلب حياتي مهمّ وضروري، حتى في ليالي الحشر والشدة من اللبنانيين جميعهم، حيث لا سبيل لتعبئة خزانات البيوت، سوى بطلب الرحمة من السماء، بعد أن أظلمت قلوب الحكام عن جبر عثرات الناس في أيامهم المأزومة بالفقر والجوع والمرض والحاجة المادية.
لقد غرقت الشوارع من دون سابق إنذار بغيث السماء، الذي روى الأرض بعد يباس، وأثلج صدور الناس لأنّ «الله خلق من الماء كلّ شيء حي»، بالرغم من زحمة السير الخانقة التي لا تطاق في بيروت الكبرى، والتي تسجن الناس في سياراتهم لساعات طويلة تعطل الإنتاج الاقتصادي والإداري، وترفع نسبة تلف الأعصاب عند المواطنين، عدا ما يلاقيه نقل المرضى من مآس على الطرقات المقفلة بسبب السيول أو الزحمة التي لتاريخه لم تجد الدولة اللبنانية لها حلاً ناجعاً، بالرغم من كلّ هذا عمّ الفرح بيوت الناس وبدأت أسلاك الهاتف تحمل التهاني كما لو كنا في فترات الأعياد، لأنّ هطول المطر حمل في طياته العنوان الكبير لسعادة مفقودة منذ زمن، جعلت المواطن اللبناني يفتش عنها خارج الوطن، بالرغم من غصة الفراق وفظاعة الألم التي قد تغرق كثير من الناس في عبّارات بحرية أو طائرات لا تحمل لهم الأمن والأمان ولذة العيش مع فسحة من الأمل والنجاح. هكذا جعلت قطرات المطر المتساقطة بكثافة أرقام الأرصدة الجوية تبشرنا بصعود معدلات المطر عن الأعوام السابقة، وهنا لا يسعنا سوى رفع التحية لمسؤولي هذه المراصد لأنهم أعطونا أملاً بخير، نأنس به، بعد كلّ هذا الجو الوطني الملبّد بالغيوم السوداء.
هنا لا بدّ من السؤال، بعد أن عطل المطر مسيرات اعتراض ربما كان سيقوم بها الشعب اللبناني من أجل تأمين المياه، وهو: مَن من المسؤولين اللبنانيين لا يعلم أنه هو المسؤول عن التظاهرات والاعتراضات والاعتصامات التي تحدث على مساحة الوطن؟ ثم أليس هم من جعل المواطن اللبناني في حالة غليان دائمة؟ علماً أنّ المواطن يقوم بواجباته في دفع الضرائب والرسوم المستحقة، وفي المقابل لا تقوم الدولة بتأمين ما له من حقوق عليها، وأهمّها دفع بدل غلاء معيشة، ورفع الرواتب حسب مؤشر الغلاء المستفحل والذي هو في تصاعد مستمر بسبب تقاعس الدولة عن مراقبة المؤسسات التجارية، التي ترفع أسعارها كلما تفوّه الموظف بالمطالبة بحقه في زيادة رواتبه المتجمّدة منذ العام 1998، لهذا كان المطر نعمة على جيوب المواطنين لا دخل لرجال السياسة في توفير بعض ما تأخذه من مصروف البيت المبرمج لتأمين الضرورات المعيشية المتنوّعة.
إنّ تفاقم الأحوال في الوطن والجوّ الملبّد بالسواد من خلال الوضع الأمني المتفجر من عرسال إلى الشمال وعاصمته طرابلس، ووضع الجنود الأسرى الذين أصبحوا رهينة ذهبية للدواعش في الداخل وفي جرود عرسال، وورقة مستفزة ومحرجة في آن للدولة، التي لم تدرك أبعاد ما حصل منذ البداية، ولم تسع إلى وضع دراسة معمّقة جدية من أجل إنقاذهم، عبر مطالبة الدولة العظمى أميركا التي تطالب بحرية الشعوب وسيادة الأوطان وإحراجها عبر ممثلها الديبلوماسي في لبنان، وذلك بالمطالبة بالضغط على حاكمي تركيا وقطر المعنيتين الرئيسيتين في تمرير السلاح والرجال والمال إلى «داعش» من أجل تحرير الجنود الرهائن، حيث هكذا تثبت القيادة الأميركية مصداقيتها في دعم لبنان وتحييده، وليس جعله ورقة في مهبّ الريح وفي يد دواعش الداخل والخارج على حدّ سواء. لأنّ ما هو حاصل اليوم وقبله وما سيأتي بعده، في كواليس الدول المتآمرة على أمن لبنان، وكلهم لديهم ممثليهم المبجّلين المعظمين في لبنان، المحميّين من قبل الدولة بعناصر الأمن الذين يدفع المواطن اللبناني رواتبهم وتكاليف معيشتهم من عرق جبينه! لا يبشر بالخير حين أكثرية العائلات اللبنانية المحايدة إضافة إلى الشباب، يستجدون السفارات الأجنبية من أجل منحهم تأشيرة خروج أو إقامة دائمة، من أجل استبدال الوطن الأم بوطن آخر يقيهم الفقر والعوز والجوع والمرض والكرامة المهانة المعطوفة على فقدان الحرية والديمقراطية.
يبقى علينا كمراقبين أن نحسن الربط بين الأداء السياسي لمن يتزعّم الوطن ومقدرات عيش المواطن، وبين أهلية المواطن الذي بات خانعاً وضعيفاً وصامتاً أمام التحديات الداعشية الكبرى، المستعصية على الحلّ، والتي فرضت ترك الحبل على غاربه للمسؤولين السياسيين الذين يسوسون الوطن من خلال مصالحهم الخاصة ومصالح حاشيتهم، إلى التصرف بالقانون والدستور كما يشاؤون، بحجة الأوضاع الأمنية اللامستقرة، والدليل القاطع ما يجري حالياً في قضية رهائن الجيش اللبناني في عرسال، حيث القضية قضية صراع على السلطة، وقضية تسييس للمؤسسة العسكرية بهدف تحجيم دورها الوطني، وقضية دعم للعدو «الإسرائيلي»، حين تتمّ مساواة عصابات الدواعش التكفيريين مع رجالات المقاومة وشهدائها الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن وسيادته واستقلاله، وأيضاً عن قضية فلسطين الكبرى وشعبها المشرّد بموجب وعد بلفور الشهير الذي منح فلسطين لليهود في 2 تشرين الثاني من العام 1917.
أضف إلى ذلك التمتع بالحصانة الممدّدة والمجدّدة، التي يجب أن لا تمسّ بالنقد او النقاش، لأنها سلطة مؤلّهة لا يجوز استبدالها أو الاقتراب منها، مهما حصل من ظلم للناس وسرقة لثرواتهم النفطية المجمّدة في كواليس وزارة الطاقة اللبنانية، إضافة إلى احتكار حق المواطن بالوظيفة العامة بعيداً من تدخلات السياسيين، ومنها طبعاً ما يجري حالياً في امتحانات الدخول إلى إحدى أهمّ المؤسسات التي كنا نظنها بعيدة عن بازارات رجال السياسة وسماسرتهم المخوّلين إيصال من يلزم إلى الوظيفة الموعودة وحرمان من لا يستطيع الوقوف على الأبواب صاغراً باذلاً الطاعة لوليّ الأمر، المولج بحقه في البقاء على أرض الوطن، تماماً كما قرأنا في كتب التاريخ عن عهد المتصرفية في عهد الخلافة العثمانية المستبدّة.
ترى هل انّ ممارسة السلطة في لبنان يجب أن تكون إرثاً مكتوباً على الجبين لا يحق للمواطن مهما علت رتبه العلمية والمعرفية ان ينال حظوة الدخول في دائرته؟ وهل للمسؤول الحق في استغباء الشعب وعدم استفتائه في ما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في المعاملات والإجراءات والسلوكيات الديمقراطية العادلة، التي سبّب فقدانها وعدم الالتزام بتطبيقها، انهيار الوطن الواقف على شفير الهاوية عبر قرار دولي معدّ سلفاً.
لهذا لا بدّ من الانتباه إلى العمل على تحليل الأوضاع القائمة بعقل وضمير وروية، لأنّ ما يُسمع في الغرب مخالف تماماً لما يظنه الكثيرون، فما سمعته في واشنطن أدهشني حين قال لي أحدهم وهو من أهل القرار: «أنتم شعوب متلقية، ولستم شعوباً قادرة على التحليل والارتقاء، لهذا علينا دائماً إرباككم ببرامجنا المعدّة سلفاً من أجل تفتيت أوطانكم والسيطرة على ثرواتكم التي نحتاجها لمواطنينا المحظوظين».
أبَعد كلّ هذا نسأل لماذا هذا الوطن ملبد بالغيوم السوداء؟