بوتين المنقذ… والمنتقدون

جورج كعدي

قيل الكثير حتى الآن في الرئيس الروسيّ فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين… وسيقال أكثر، حبّاً وتأييداً، أو كرهاً ومعاداة. إنّما لا هذا ولا ذاك سيبدّل في الحقيقة والواقع شيئاً، فروسيا العراقة والحضارة والعظمة والتاريخ جاءها المنقذ، ولكلّ أمّة، لا محالة، منقذها في لحظة تاريخيّة حرجة، واللحظة فائقة الحرج لروسيا كانت على ما هو معلوم لحظة تداعي الاتحاد السوفياتيّ وانفراط عقده الداخلي وضمور نفوذه الخارجيّ، خاصّة في أوروبا الشرقيّة، ما أبقاه لبضع سنين في حالة انعدام وزن وتخبّط وضياع ولملمة وضع داخليّ صعب سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، وحتى إيديولوجيّاً وثقافيّاً، حتى كادت روسيا البيضاء الأمّ تفقد هيبتها وموقعها كقوّة عظمى، وبدت للولايات المتّحدة ولأوروبا الغربيّة لقمة سائغة سهلة الابتلاع، أو ثوباً عتيقاً بالياً يسهل تشليعه.

أحلام الغرب الإمبرياليّ المستعمر وأوهامه سرعان ما بدأت تتداعى مع الصعود السريع والمُطرد الذي وصفه الباحث والأكاديميّ السوريّ كيفورك ألماسيان في مقالة له «السفير» في 29 تشرين الأول الفائت على النحو المثير والمعبّر الآتي: دخل نائب رئيس بلديّة سان بطرسبرغ إلى مؤتمر بعنوان «روسيا والغرب: الأمن الدوليّ والإصلاح السياسيّ» نظّمته «مؤسسة كوربر» الألمانيّة في روسيا عام 1994، وقال في سياق خطابه: «لقد تخلّت روسيا طوعاً عن أراضي كبيرة للجمهوريّات السابقة للاتحاد السوفياتيّ، بما في ذلك المناطق التي كانت تنتمي دوماً تاريخيّاً إلى روسيا». ولم يقصد الرجل بقوله هذا شبه جزيرة القرم وشمال كازاخستان فحسب، بل منطقة كالينيغراد التي تحيط بها بولندا وليتوانيا وبحر البلطيق أيضاً، مشدّداً على أنّه لا يمكن لروسيا أن تتخلّى ببساطة عن مصير 25 مليوناً من الروس الذين يعيشون اليوم في الخارج، وأنّ على العالم احترام مصالح الدولة الروسيّة و«الشعب الروسيّ كأمّة عظيمة». الرجل الذي بدا خطابه مزعجاً للسياسيّين والصحافيّين الأوروبيّين، كان فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الذي لم يكن يتصوّر أحد أن يُصبح قيصراً للبلاد، ويعيد إحياء سياسة موسكو الخارجيّة التي غدت تُعرف لاحقاً بـ«عقيدة بوتين» … . ويمضي ألماسيان في تعداد أربع قواعد «انتهجها بوتين بحنكة وثبات» بحسب تعبيره، وهي اختصاراً: أولاً، إنعاش مصادر قوّة الاقتصاد الروسيّ، وبخاصة صناعات النفط والغاز الطبيعيّ، وإعادة تأكيد سيطرته على السياسة الوطنيّة والنظام القضائيّ وشبكات التلفزيون الوطنيّة وتعزيز القوّات المسلّحة الروسيّة ورفع موازنة الإنفاق العسكريّ المتوقّع أن يبلغ 82 مليار دولار عام 2016… ثانياً، الحفاظ على مكانة روسيا كقوّة نوويّة عظمى ومعارضة أيّ مشروع يمكن أن يُضعف التكافؤ الاستراتيجيّ مع الولايات المتحدة الأميركيّة، كما تسعى موسكو إلى الحفاظ على صادراتها من التكنولوجيا النوويّة إذ تبيع شركة الطاقة النوويّة الحكوميّة Rosatom التكنولوجيا النوويّة بنشاط منقطع النظير ولديها حالياً عقود بيع مفاعلات نوويّة للصين وتركيا والهند وبيللاروس وبنغلاديش، والمثال الأهمّ هو الجمهورية الإسلاميّة في إيران إذ ساعدت روسيا في بناء محطّة بو شهر النوويّة بقيمة مليار دولار رغم المعارضة الشرسة من الإدارة الأميركيّة. ثالثاً، السعي إلى إعادة الاندماج السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ والثقافيّ لدول الكتلة السوفياتيّة السابقة تحت القيادة الروسيّة لتعزيز هيمنتها الإقليميّة، وأثمر هذا المسعى إنشاء كلٍّ من «منظمة معاهدة الأمن الجماعيّ» CSTO وهي تحالف عسكريّ يضمّ كلاًّ من روسيا وأرمينيا وبيللاروسيا وكازاخستان وقيرغرستان وطاجكستان، فضلاً عن الاتحاد الجمركيّ بين بيللاروسيا وكازاخستان وروسيا المقرّر أن يتطوّر إلى الاتحاد الاقتصاديّ الروسيّ EEU بحلول العام 2015. كما يسعى بوتين إلى التنسيق مع مجموعة من الدول، إضافة إلى دول الاتحاد السوفياتيّ السابق التي تشاركه الرؤية الاستراتيجيّة المناهضة لسياسات الولايات المتحدة الأميركيّة في النظام الدوليّ، إلى جانب سورية وإيران. ونجح في جعل الصين حليفته الرئيسيّة في عرقلة السياسات الخارجيّة للولايات المتحدة، وتعمل كلٌّ من بكين وموسكو على تكريس نظام عالميّ متعدّد القطب. رابعاً، استخدام روسيا حق الفيتو لإحباط مبادرات الولايات المتحدة الضارّة بالمصالح الروسيّة، مثلما فعلت في الشأنين السوريّ والإيرانيّ.

إذ يعدّد الباحث نقاط التحوّل والقوّة هذه في روسيا الجديدة زمن الرئيس بوتين، يعود في خاتمة مقاله ليرتدّ على ما أُنجز، منتقداً وغامزاً إلى ما يحسبه نقاط ضعف في الوضع الروسيّ مثل «عجز السياسة والثقافة الروسيّتين عن إبهار شعوب المناطق الأخرى في العالم مقارنة بالحلم الأميركي» و«محدوديّة تأثير الإعلام الروسيّ المضادّ للماكنة الإعلاميّة الغربيّة وقدرتها على تسويق نفسها وإظهار موسكو كدولة متخلّفة وغامضة» و«افتقار روسيا إلى منظمات غير حكوميّة تابعة لها NGO في الدول الأخرى على غرار منظمات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ…» و«أنّ على روسيا أن تحسّن الرعاية الصحية وظروف العمل، وأن تستثمر الأموال لمصادر أفضل للغذاء، وأن تشجّع الصناعات غير العسكريّة لتصديرها وليصبح واقع الحياة اليوميّة في البلاد موازياً لإنفاقها 31 مليار دولار على أولمبيا سوتشي، وغير مخالف لذلك. أما الأهمّ فيتعلّق بالحاجة إلى تغيير مسار تدفق المعلومات والدعاية السياسيّة والاجتماعيّة… لتغيير الصورة النمطيّة التي رسمتها وسائل الإعلام السائدة ضدّ موسكو».

فاتت السيّد ألماسيان الحقائق الآتية، واختصاراً:

1 ـ لا حاجة لروسيا إلى ابتداع ما يوازي أو ينافس «الحلم الأميركيّ» المتهاوي والمفضوح والمتحوّل كابوساً لسائر شعوب الأرض.

2 ـ عمر الإعلام الأميركيّ عشرات السنين، ولا يتعدّى عمر الإعلام الروسيّ الجديد عقداً من السنين، فلا مجال للمقارنة، ولننتظر.

3 ـ المنظّمات غير الحكوميّة التي تخترق المجتمعات بدعة أميركيّة وغربيّة تندرج في السياسة الإمبرياليّة التوسعيّة وفي التجسّس والتآمر وإتباع المؤسّسات والأفراد. لعبة قذرة لا تليق بروسيا غير المستعمِرة تاريخيّاً.

4 ـ إنّ ظروف النظام الصحّي ليست أفضل في الولايات المتحدة، كذلك معدّلات البطالة المأسويّة في أميركا وأوروبا على السواء.

5 ـ إنفاق 31 ملياراً على الأولمبياد مقترن بعظمة تاريخ روسيا وبالمنافسة التي تفرضها جميع الدول على تقديم الأضخم والأجمل.

6 ـ تغيير الصورة النمطيّة يحتاج إلى وقت، كذلك تدفّق المعلومات والدعاية السياسيّة والاجتماعيّة، فلنصبر على روسيا الجديدة الفتيّة وقيصرها الفذّ المنقذ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى