«أوكسجين» سوري لإقليم متهالك…
د. وفيق إبراهيم
مسيرة الدولة السورية منذ اندلاع أزمة الإرهاب والمستثمرين الدوليين والإقليميين به تكشف إنها نسيج شديد الوطنية يختلف عن مثيلاته في هذا المشرق.
ففيما تواصل معظم الدول العربية مسيرة انحدارية تضعها فريسة للجشع الأميركي والغربي ويبتزها الرئيس الأميركي ترامب بالإكراه والسخرية تتصدّى الدولة السورية لمئات آلاف الإرهابيين وجيوش أميركية وتركية وفرنسية وإسرائيلية تتدخل مباشرة عبر البر والجو.
آخر صورتين لهذين النموذجين السوري والعربي، ظَهَرَ على شكل نجاح الحلف الروسي السوري في دفع تركيا لتطبق الجزء الأول من إفراغ مناطق واسعة من إدلب من المسلحين واسلحتهم وهذا التطبيق الأولي ما كان ليحدث لولا وجود موازنات قوى سورية وروسية داعمة له.
بالمقابل تُسرع السعودية لاستدعاء دول الخليج والأردن ومصر للتأسيس لناتو عربي برعاية أميركية معادٍ لإيران فقط ومؤيد لـ»إسرائيل».
هذان النوعان المتناقضان من السياسات يكشفان عن وجود نوعين من الدول في المشرق: الدولة الوطنية السورية ونوع الدول العربية الهزيلة، السورية المُستهدَفة منذ سنوات سبع صمدت وحافظت على مؤسساتها الدستورية والأمنية والعسكرية… أما النموذج الآخر فيحتمي بالسلاح الأميركي كما أكد الرئيس الأميركي ترامب ومن مميزاته انه لا ينتج شيئاً ويشتري ولاء الناس بالإرهاب والقتل والمكرمات والرشى. الأمر الذي يؤكد أن لا ولادات وطنية عند العاملين في قطاعاته العامة، بقدر ما يوجد إكراه على الصمت سببه حالة القمع العامة في مجتمعات «السمع والطاعة».
إن نموذج اختطاف الإعلامي جمال الخاشقجي من قنصلية بلاده السعودية في اسطمبول التركية نموذج واضح لطريقة تعامل السعودية مع «رعاياها» بالقهر والقتل لمجرد إبداء رأي بسيط معارض لها.
لكن ما يجري اليوم في سورية إنما يُسدي لهذا النمط الضعيف من الدول المتهالكة في الإقليم خدمات من حيث لا تحتسب، كان الرهان الأميركي الإسرائيلي يقوم على إسقاط الدولة السورية وتفتيتها لأهداف عدة: إلغاء القضية الفلسطينية ومشروع لتفتيت المنطقة بعد تفتيت سورية مباشرة واستتباع الجولان المحتل للكيان الإسرائيلي الغاصب في فلسطين المحتلة.
وجرى التركيز على إسقاط سورية بنيران إرهاب دعمته مئات الغارات الإسرائيلية والأميركية والحدود المفتوحة والتدخل العسكري التركي ومئات مليارات الدولارات وسرقة آبار النفط والغاز السورية شرق الفرات بإشراف أميركي مباشر لم يحاول إخفاء تورّطه في هذه السرقات.
وفيما كان الإرهاب ينخر العراق ومصر وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي متجذّراً بشكل فكري في السعودية والإمارات مستفيداً من أموال كويتية وقطرية تأتي من تيارات دينية وسياسية ورسمية كان الجيش السوري الآلية العسكرية الأولى لدولته الوطنية يقاوم بإمكاناته المتواضعة وشجاعة أفراده انتشاراً إرهابياً مدعوماً على مساحة تزيد عن مئة الف كيلومتر مربع مدعوماً بخطوط تقدّم تؤمنها الغارات الجوية على الجيش السوري وخطوط تراجع بحدود مفتوحة مع الأردن والعراق وتركيا بآلاف الكيلومترات مع إمكانية كانت موجودة للتسلل نحو لبنان بأي وقت مع الاستفادة أيضاً من الخدمات الإسرائيلية المتنوّعة.
هذه المعاناة التي تكبّدتها سورية لم تؤد الى انهيار دولتها الوطنية. فالمؤسسات الدستورية من رئاسة جمهورية ومجلس وزراء ومجلس نيابي ظلت متماسكة ولم تتشرذم والأجهزة الأمنية ثابتة في ولاءاتها وبدت كالصخر شديدة التماسك لم تأبه الا الى مهمة واحدة: الدفاع عن الوطن ودولته الوطنية وأمان المجتمع، قد تكون هناك بضعة آلاف من عناصر الجيش فرّوا الى خارج سورية، لكن هؤلاء لم يشكلوا حالة عصيان سياسية بقدر ما جسّدوا حالة فرار من الخدمة العسكرية لأسباب عائلية واقتصادية حتى أن رئيس الوزراء رياض حجاب تلقى حسب ما قاله القطريون خمسين مليون دولار كرشوة ليهرب ففرّ ولم يخلف أثراً لا داخل سورية ولا خارجها، حتى شعر مموّلو عملية الفرار انهم انخدعوا بحجاب إذ تبين أن لا قيمة سياسية له على الإطلاق.
ماذا يعني هذا الكلام؟
يكشف عن تماسك عميق للدولة الوطنية السورية لا يقتصر على ولاء المؤسسات العسكرية فقط للآليات الدستورية في رئاستي الجمهورية والحكومة، بل يعكس وجود مشروع وطني يظهر طبيعة الدولة واتجاهاتها التاريخية.
نعم هو مشروع وطني مستمر منذ تأسيس سورية الحالية في 1947 كجزء من سورية التاريخية.
فأخذت على عاتقها أداء دور وطني بأفق قومي ونجحت في تأمين التفاف من معظم السوريين لمشروع دولتهم الوطنية، وإلا كيف يفهم الناس التزام سورية المطلق بقضايا فلسطين والعرب وقيادتها لمجمل مشاريع التصدي للعدو الإسرائيلي والنفوذ الأميركي ومشاريع التفتيت الأميركية عبر «إسرائيل» والإرهاب والخليج وتركيا؟
يتبين أن عناصر الدولة الوطنية القوية متجسّدة في الدولة السورية حيث التاريخ العميق الذي لا لبس فيه كحالة الذين يصطنعون تاريخاً مفبركاً في السعودية ولبنان حيث المشروع والمؤسسات والأجهزة والمجتمع.
لذلك سقطت مشاريع الإرهاب بالتفتيت، هذه المشاريع التي لم تجد صدى طائفياً أو مذهبياً لها في تنوّعات السوريين فبقيت الوطنية السورية أقوى من عناصر التفجير وأثبتت أن دولتها واحدة من أكثر الدول تماسكاً في المنطقة وإلا كيف تمكّنت من الصمود سنوات سبعاً ضد أعنف أدوات تدمير لم يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
ولهذا الصمود انعكاساته على الشرق الذي توجد فيها دول ضعيفة يحميها الأميركي واموال النفط.
يبدو أن هذه الدول لم تنجح بالارتقاء الى مستوى الدولة الوطنية وظلت متمسكة بدورها كسلطة اسسها الغرب في اوائل القرن العشرين لتأمين النفط فيه وقمع الناس وهذا ما فعلته دائماً. وموضوع الخاشقجي يشكل قتلاً صغيراً على الطريقة التي تقتل بها هذه الدول رعاياها.
لقد استفادت هذه الدول من نجاح سورية في القضاء على مشروع تفتيتها وأصبحت تستمدّ «أوكسيجين» صمودها كسلطات من هذا الصمود السوري.
لأن المشروع الغربي الإسرائيلي يدرك أن نجاة سورية هي نجاة لكل المنطقة العربية من العراق الى اليمن، لعل هذه الأسباب التي تفرض على الدول العربية والغربية محاولة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق إلى سابق عهدها واسترضائها؟
«الأوكسيجين» السوري لا يُنعش إذاً سورية فقط بل يرسل دفعات من وطنياته الى بلدان تحتاج اليها.
لكنها تستفيد من الدور السوري الشجاع لتهرب من العبث الأميركي إنما على حساب الاستمرار في قمع شعوبها، لكن التاريخ يقول مؤكداً ان «استمرار هذه حال من المُحال».