تركيا التي تحاول الخروج من أزمتها مع أميركا تغرق في أزمة مع السعودية…!
د. هدى رزق
تجري محادثات بين مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية ومحامي «هالك بنك» بطريقة سرية للغاية. فالبنك المملوك للدولة التركية ليس بعيداً عن التسوية. إذ تبدو احتمالات الغرامة الصغيرة معقولة. ويمنح قانون الولايات المتحدة الإدارة الحق في التنازل كلياً أو جزئياً عن أيّ عقوبة وفقاً لمستوى «الأمن القومي». ليست المرة الأولى التي تقوم فيها وزارة الخزانة الأميركية بمفاوضات وبتسويات ففي عام 2012، دفع بنك آتش أس بي سي البريطاني للسلطات الأميركية 1.9 مليار دولار في تسوية حول غسيل الأموال التي ساعدت دولاً مثل إيران وكوريا الشمالية. وفي العام نفسه، دفعت شركة كوميرسنت أزد الألمانية مبلغ 1.45 مليار دولار لانتهاكات مماثلة. أما القضية الأكثر لفتاً للانتباه في التاريخ الحديث هي قضية البنك الفرنسي «بي إن بي باريبا». ووفقاً لمحكمة الولايات المتحدة للمنطقة الجنوبية من نيويورك خرق البنك عقوبات الولايات المتحدة ضدّ إيران والسودان وكوبا بين عامي 2002 و2009، من خلال التعامل بمعاملات قيمتها 30 مليار دولار. وانتهى المصرف بالموافقة على دفع 8.9 مليار دولار لحلّ قضية الاتهامات.
أما المحادثات مع إدارة «هالك بنك» فلم تتضح نتائجها بعد على الرغم من أنّ تركيا مستعدّة لعقد صفقة تنهي الخلاف مع الولايات المتحدة. لا سيما أنّ الأخيرة تتمهّل في فرض عقوبات جديدة على أنقرة بانتظار ما ستقرّره في 12 تشرين الأول أيّ تاريخ محاكمة القس برونسون. ثمة تصريحات تلوح في الأفق حول تسوية وضع القس المرتبطة بعملية «هالك بنك». فالحليف السياسي الرئيسي لحزب العدالة والتنمية، حزب الحركة القومية الذي يتفاوض معه من أجل الانتخابات المحلية المقبلة، قدّم قانوناً منح عفواً جزئياً لبعض السجناء إلى مكتب رئيس البرلمان، وقال مسؤولوا الحزب إنّ ما مجموعه 989 162 سجيناً «سيستفيدون» من العفو. وأبلغ أردوغان أنّ وزارة العدل تعمل على هذه القضية، لذلك يمكن التنبّؤ بأن يكون برونسون من بين الأشخاص الذين سيتمّ الإفراج عنهم إذا تكللت المباحثات مع وزارة الخزانة الأميركية بالنجاح.
وفيما كان حزب العدالة والتنمية يتباهى بسياسته الخارجية وينتقد السياسة الخارجية التركية التي اتبعتها الحكومات التركية العلمانية في الحقبة الجمهورية كافة قبل صعود الحزب إلى السلطة في عام 2002. وينتقد النخب العلمانية التي اتبعت سياسة خارجية مؤيدة للغرب، ومعادية للعرب والعالم الإسلامي.
وجدت الحكومة نفسها مرة أخرى في مواجهة إحراج دبلوماسي ضخم ويشكل سابقة خطيرة للأصوات المعارضة الشرعية التي اضطرت إلى مغادرة بلدانها، حيث اختار السعوديون تركيا لتنفيذ اختطاف الصحافي المعارض جمال الخاشقجي في اسطنبول. ما يعني شيئين: إما أنهم لم يتوقعوا أن تتفاعل تركيا بشكل مفيد أو أنهم لا يهتمّون بأيّ ردّ فعل تركي محتمل.
اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في اسطنبول الأسبوع الماضي شكل مشكلة جديدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. إذ يمكن لهذه القضية التسبّب بمشكلة خطيرة بين تركيا والمملكة العربية السعودية ذلك في الوقت الحساس الذي تمرّ به المنطقة. فالعلاقات التركية – السعودية ليست في أفضل حالاتها أما القاعدة الداعمة للإسلاميين في تركيا فهي حانقة ولا تكن الودّ للملكة العربية السعودية، خاصة أنها ترى أنّ ولي العهد محمد بن سلمان ضرب بقوة جماعة الإخوان المسلمين في السعودية تحت شعار الإعتدال لإرضاء الغرب. فالنظام السعودي يعادي تركيا ضمناً بسبب دعمها للإخوان المسلمين ولحركة حماس التي صنّفها إرهابية، ويرى أنّ تركيا تتحدّى جهوده لعزل ومعاقبة الدولة الخليجية الداعمة للإخوان، أيّ دولة قطر، كما يرى أنها حليفة لعدوّتها إيران. تركيا من جهتها تتهم الرياض بدعم الإنقلاب في مصر والإطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي عام 2013 عبر دعم الجيش المصري لوجستياً وسياسياً فيما بدا أنّ الأمر كان موجّهاً ضدّ دعمها لحكم الإخوان حينها. بيد أنّ البراغماتية الدبلوماسية أجبرت الطرفين على الحفاظ على العلاقات الودية ظاهرياً.
كانت تربط الخاشقجي علاقات شخصية مع أسماء بارزة من حزب العدالة والتنمية كياسين أقطاي المستشار الشخصي للرئيس التركي أردوغان، وعلاقات قوية مع وسائل الإعلام الموالية للحكومة في تركيا. تريّث أردوغان في ردّ فعله، لكنه وصف الخاشقجي بأنه «صديق منذ فترة طويلة».
تركيا لا تستطيع تحمّل هذه القضية، فأيّ دولة أخرى يمكن أن تتشجّع على تنفيذ عمليات مماثلة في تركيا
تسود الصحافة التركية موجة من الغضب العارم ضدّ المملكة العربية السعودية التي تصرّ على أنّ الرجل خرج من القنصلية السعودية. لكن الإعلام التركي يرى أنها مسألة شرف لتركيا ولأمنها واستخباراتها وسياستها الخارجية.
تقدّمت أنقرة بطلب تفتيش السفارة، لكن العديد من المعلّقين يعتقدون أنّ الإذن من الجانب السعودي هزلي، لأنّ هناك متّسعاً من الوقت لتخليص المباني من الأدلة… أنقرة غاضبة من أنّ النظام السعودي اختار تركيا لتنفيذ عملية كهذه، مدركاً تماماً أنّ ذلك سيتركها في موقف صعب محلياً وعالمياً. أما احتمال تحوّل ذلك إلى أزمة كاملة بين البلدين فهو لا يزال مطروحاً. اختار بن سلمان اختطاف أو قتل الخاشقجي لنشر الخوف بين أعدائه من خلال إعلامهم أنه سيقضي على خصومه بغضّ النظر عما إذا كانوا يعيشون في الولايات المتحدة أو يكتبون لوسائل الإعلام الغربية. وهذا ما يُحرج أردوغان الذي يلاحق أيضاً معارضيه خلف الحدود، حيث تتشكى أوروبا من استخباراته. فيما يحاول وزير خارجيته الطلب من بعض البلدان التي لجأ اليها معارضوه تسليمهم لتركيا حيث يلاقي رفضاً من بعض البلدان الديمقراطية.