ثقافة الشعوب

رولان رياض مشوح

الكثير من الناس لا يعرف شيئاً عن شعوب العالم، فمعلوماته مقتصرة فحسب على من هم حوله ، لأن ثقافة أي مجتمع تكوّنت عبر دهور طويلة تمكنت فيها من مدّ الجذور عميقاً في الأرض، ولكنها مثل الأشجار العظيمة تحتاج إلى فضاء واسع يخصها وحدها كي تمنح الظل الكثيف لكل من يعيش فيها أو يمر تحتها، ونحن نعيش في ظل قرية صغيرة نجمع فيها عشرات الجنسيات المختلفة بحيث يصبح التفكير في وضع الضوابط عبر القوانين والأنظمة ملحّاً أكثر اليوم، ويتوجب على هذه الأنظمة ألاّ تغفل شيئاً البتة، فهذه الشعوب إذا ابتعدت عن مجتمعاتها وقيمها لن تستطيع فهم لغة غير النظام والقانون، وهي محقة في ذلك.

إنّ التنوع الثقافي الذي نشهده يعد مصدراً من مصادر إثراء للثقافات، وتعزيزاً لقدراتها، ومنحها أبعاداً إنسانية تطلق العنان لآفاقها الإبداعية الخلاقة، فالتنوع الثقافي مصدر مهمّ في مجال هوية الإنسان وحقوقه الأساسية. إنّ اختلاف الثقافات الذي يحيط بنا اليوم هو نتاج ألوف الأعوام من تفاعل الإنسان مع الطبيعة والعلاقات بين شعوب ذات أعراف ومعتقدات وأنماط عيش مختلفة. ومن واجبنا أن نجد طريقة ننقل بها إلى الأجيال المستقبلية هذا الإرث الذي لا تقدر قيمته بثمن، وكيفية توظيفه توظيفا ًسليما ًمن خلال التواصل والحوار. وتأصيل روح المحبة والتآخي بين أبناء المجتمع الواحد بمختلف أعراقه وثقافاته يعدّ صمام الأمان والضامن الأساسي لحوار حقيقي يشكل سندا ًقويا ًللتعايش والتواصل الحضاري.

هنا نذكر ما كتبه كلود ليفي شتراوس «أنّ الإسهام والتميز الحقيقي لأيّ ثقافة هو في اختلافها عن غيرها، والأساس بالعرفان والاحترام لدى كل فرد فى أيّ ثقافة تجاه الآخرين لا يقوم إلاّ على اقتناع بأنّ الثقافات الأخرى تختلف عن ثقافته فى جوانب عديدة حتى وإنْ كان فهمه لها غير مكتمل، ومن ثم فإنّ فكرة «الحضارة العالمية» لا تـُقبل إلاّ باعتبارها جزءًا من عملية شديدة التعقيد، ولن تكون هناك حضارة عالمية بالمعنى المطلق الذى درج البعض على استخدامه، فالحضارة تعني تعايش الثقافات بكامل تنوعها، والحقيقة أنّ أيّ حضارة عالمية لا يمكن أنْ تُمثل إلاّ تحالفًا عالميًا بين الثقافات تحتفظ فيه كل منها بأصالتها».

مما لا شك فيه أن اختلاف الثقافات يؤدي إلى تصادم نتيجة التضارب في المفاهيم، ووصول الأفكار، فالرموز الدينية والثقافية لدى شعب تختلف عنها لدى شعب آخر، والإنسان يعيش في دائرة مغلقة، يدور حول نفسه ولا يهمه العالم الخارجي، لكن حين يملك الشخص كمّاً هائلاً من المعلومات يشعر بما يسمى نشوة العلم والتي تساعد في تعزيز الثقة بالنفس وهي المحور الأساسي لنجاح الحياة ، وبما أن لكل شعب من شعوب العالم ميزة تميزه عن سواه فإن المنجز الثقافي هو، على ما يرى جون ديوي، محصلة التفاعل بين الإنسان وبيئته، وثقافة شعب ما هي جماع المعارف الإنسانية لذلك الشعب في محاولته الوصول إلى حالة من التوازن مع الظروف الحياتية التي يحياها، وإبداع حالة تكيّف مثلى مع الشروط التي تفرضها البيئة المحلية والعلاقات المتشكلة مع الشعوب ذات الثقافات الأخرى. إنها جدال حيوي يدور بين الشعوب وبيئتهم مرة، وبين فئات الشعوب نفسها مرة أخرى، ما يدفع تلك الفئات إلى العمل على ابتكار ما يتصل بحياة شعوبها وجعلها أكثر قدرة على تأكيد كياناتها بامتلاك خصائص مستقلة تميزها عن سواها من الكيانات القريبة أو البعيدة بعلم أو بغير علم ذلك أن ثقافة الأمة هي علمها غير الواعي الذي تتوارثه الأجيال وتسيّر به شؤون حياتها، أي هي طريقتها في الحياة.

بما أن الإنسان لا إرادة له في اختيار لونه أو أسرته أو قبيلته أو المكان الذي يولد فيه، تأتي الاختلافات بين الجماعات والمجتمعات والشعوب والأمم بسبب اختلاف الثقافات واختلاف المرجعيات التي تحكم حياة هذه الشعوب، ومدى تمسك الناس بتعاليمهم وبتلك المرجعيات.

من المتعارف عليه أن المجتمع هو نتاج ثقافته التي يؤمن بها ويتبناها، وثمة في كل ثقافة ثوابت ومتغيّرات وتتحدد مساحة كل منهما بحسب تلك الثقافة وما تعتمد عليه من قيم وعقائد وعادات وتقاليد، ومن أطرف الدراسات التي حاولت بيان عوامل ومجالات الاختلاف بين الشعوب دراسة لعالم اجتماع هولندي اسمه جبريت هوفستد، من خلال صحيفة استبيان وزعها على عدد كبير من الدول والشعوب، وأبرز نتائج الدراسة التي توصل إليها تتمثل في أن هناك خمسة عوامل تحدد الاختلاف بين الأمم والشعوب، على النحو الآتي:

1 – المسافة الاجتماعية، تهتم بمقدار العلاقة بين مختلف الأفراد في المجتمع، إذ يحدث أن بعض المجتمعات تقيم وزناً كبيراً لبعض الأشخاص بناء على قدرهم الاجتماعي بحكم السن أو المركز الاجتماعي أو القدرة المالية، والبعض الآخر لا يقيم وزناً كبيراً لمثل هذه العوامل الاجتماعية. مثلا تهتم المجتمعات الشرقية والعربية خاصة بالاختلاف في السن وتظهر احتراماً كبيراً للأكبر سناً، في حين أن مجتمعات أخرى مثل المجتمعات الإسكندنافية لا تفعل ذلك وتحاول إعطاء الجميع الأهمية نفسها والتقدير ذاته بغض النظر عن السن والمكانة والمركز والقدرة المالية.

2 – الفردية والجماعية، وتهتم بقياس قدرة الأفراد على الانفراد التام بأفعالهم بغض النظر عن الآخرين، وبالتالي فإن المجتمعات التي تتميز بالفردية يكون الأفراد فيها قادرين على فعل ما يريدون بغضِّ النظر عمّا يعتقده الآخرون، في حين أن المجتمعات التي تنتشر فيها الروح الجماهية يتجه أفرادها غالباً إلى الاهتمام كثيراً بمحيطهم الاجتماعي، ما يؤثر في قراراتهم وأفعالهم. مثلا مجتمعات أميركا اللاتينية تسجل أقل النقاط في هذا البعد نظراً إلى كونها تعلي من قيمة الجماهير، بينما تسجل الولايات المتحدة أعلى النقاط في هذا البعد لناحية الفردية ومنح الشخص أقصى درجات الفردية، لذا يعرف المجتمع الأميركي لدى عند علماء الاجتماع بأنه مجتمع فردي، ولا شك في أن المجتمعات المسلمة هي مجتمعات جمعية لأن ثقافتها الإسلامية قائمة على ذلك، مثل الصلوات والحج وصلة الرحم وعلاقات الجوار والتكاتف والتكافل الاجتماعيين.

3 – الذكورة والأنوثة، والمقصود أن المجتمعات الذكورية تركز على معايير النجاح الرجولية مثل النجاح والتفوق وزيادة الثروة، في حين أن المجتمعات الأنثوية تعرّف معايير النجاح بالعلاقات الاجتماعية وجودة الحياة، وبحسب دراسة هوفستيد تظهر اليابان بكونها أكثر الدول ذكورية، والسويد أكثر الدول أنثوية، ولا شك في أن مجتمعاتنا العربية في معظمها مجتمعات ذكورية، لكنها تهتم بالعلاقات الاجتماعية وجودة الحياة وتعتبر المرأة أهم عنصر داخل البيت، مع الاختلاف بين أسرة وأخرى.

4 – تجنب المجهول، وهنا يتم تقويم المجتمعات بحسب قدرتها على التعامل مع التجديد والتغيير من ناحية، والقبول بالمغامرات أو تجنبها من ناحية أخرى، والاختلاف في التأكيد على وجوب مراعاة القواعد الاجتماعية والعملية، والتعامل مع الغريب والأجنبي، وقد احتلت مجتمعات البحر الأبيض المتوسط واليابان مركز الصدارة بحسب هذا المعيار، والواقع أن التاريخ يثبت أن الأمة التي تولع بالمغامرة وارتياد المجهول هي في الغالب الأمة التي يمكن أن تتقدم وتبني حضارة، وكان ذلك ديدن المسلمين في عصورهم الزاهية. 5- النظر إلى المدى البعيد والنظر إلى المدى القريب، وهذه خاصية تعكس الاهتمام بالحاضر والمستقبل مقارنة بالماضي ومدى تأثير ذلك في القرارات، وثمة مجتمعات تنتشر فيها ثقافة «الآنية» وعبارات مثل عش يومك واصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب.

نخلص إلى أن المجتمعات، حتى في البلد الواحد، تختلف عاداتها وتقاليدها وقيمها، وبالتالي علينا أن نتعرف إلى الشعوب الأخرى وعاداتها وتقاليدها وقيمها لنتعايش معها ونفهم سلوكها على نحو يمكننا من تحسين الروابط وتقويتها معهم والوصول إليهم بديننا على نحو حضاري ومقبول، فنحن أهل رسالة، والرسالة لن تصل بشكل جيد إلاّ عبر معرفة ثقافة الشعوب والمجتمعات واحترامها.

محامية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى