المشاريع الطائفية تتوسّع… لماذا؟

د. وفيق إبراهيم

يشهدُ لبنان غلواً في العودة إلى الخطاب الديني لشدّ عصب البيئات الاجتماعية حول أحزاب لديها اهتماماتها السياسية الداخلية إنما على وقع ارتباطاتها بالإقليم والخارج.

وكان اتفاق الطائف في 1989 أخمد نسبياً نيران الصراعات بين المذاهب والطوائف بإنتاجه صيغة لا تعزُل أحداً لكنها تنتزع الامتيازات السياسية الكبيرة التي كان الانتداب الفرنسي أوْلاها لمؤيديه في المذاهب المسيحية معيداً توزيعها على مجلس الوزراء مجتمعاً. وبما أنّ «الطائف» كان إنتاجاً سورياً وسعودياً وأميركياً فقد تمكّن المرحوم الرئيس رفيق الحريري من تجسيد الحصة السعودية منطلقاً بصداقاته وإمكاناته من الاستحواذ على الحصتين السورية والأميركية ممسكاً بهذه الطريقة بكامل الامتيازات السياسية والاقتصادية في لبنان. وهذا استولد شعوراً بالغبن لدى المسيحيين، علماً أنّ قياداتهم الدينية والسياسية هي التي تحالفت مع الحريري لمنع تشكل تحالف سني شيعي كانت تعتقد أنه قادر على إلغاء الدور السياسي للمسيحيين في لبنان بشكل كامل.

ما يجري اليوم أكثر خطورة مما حدث في سبعينيات القرن الماضي، فإذا كانت المقاومة تمكّنت من لجم الهيمنة الحريرية على البلاد بانتصاراتها على «إسرائيل» في محطتي 2000 و2006 والإرهاب في سورية وجرود عرسال بدءاً من 2013 وحتى تاريخه، ونجحت في إضفاء طابع وطني مستحق على انتصاراتها، فهناك قوى تعمل اليوم على استنهاض مشاريع طائفية في حركة صراعها الداخلي على المغانم السياسية والاقتصادية وأحجامها في مجالس الوزراء والنواب.

لم تَعُد الحركة إسلامية صرفة تقتصر على بيئات دينية تُروِّج لأفكار القاعدة حيناً والاخوان المسلمين حيناً آخر وتذهب في معظم الأحيان نحو تبنّي «داعش» ونسيبتها النصرة ومشتقاتها وتشتم علناً المذاهب الإسلامية الأخرى «المجوسية» كما تصفها، وتعتبر المسيحيين كفاراً لا يمكن الحوار معهم إلا بلغة السيف والتهجير. لقد انتشر هذا الخطاب بين مسلمين متطرفين كانوا يحتمون بنزعة حزب المستقبل لتأييد النهج السعودي المعادي لسورية الأسد وبعض الزوايا الدينية في الشمال ومخيمات الفلسطينيين والسوريين والبؤر الدينية في الاخوان والقاعدة المنتشرة في المدن والقرى.

بيد أنّ محاولاتهم لم تكبر لأنّ المشروع الإرهابي تلقى ضربات مميتة في سورية والعراق مع توازنات قوى في لبنان بنيت على تحالف بين الجيش وحزب الله تمكنت من قمع الاتجاهات القاعدية من دون قتال شديد إنما مع مراقبة يومية فتت عضد المجموعات المتطرفة.

ما يجري اليوم أكثر خطورة فبدلاً من الإرهاب الملتحق بالسعودية تمكّنت قوى مسيحية في حزب «القوات» وبعض المتساقطين في صراعاتهم الداخلية من نسج علاقات عميقة مع الرياض والأميركيين والعودة إلى التحالف مع حزب المستقبل والأجنحة الأكثر يمينية فيه من ريفي في طرابلس الى خالد الضاهر ومعين المرعبي… وذهب بعضهم كفارس سعيد لوضع نفسه في خدمة السعوديين بشكل مباشر أيّ من دون وسيط داخلي.

وإذا كانت هذه الصورة تقليدية لا تعكس خطراً كبيراً على العلاقات الاجتماعية لاقتصارها على شرائح محدودة، فإنّ ما تروّج له القوات اللبنانية وبعض القوى المسيحية الأخرى يندرج مباشرة في إطار إعادة بناء الظروف المناسبة لمناخات الحرب الطائفية.

لماذا؟

لا يتورّع الوزير ملحم الرياشي عن الربط علناً بين ما آلت إليه القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وبين مستقبل المسيحيين في جبل لبنان، فالقسطنطينية عاصمة البيزنطيين الذين تأسّسوا بوراثة الإمبراطورية الرومانية متميّزين عنها باعتناقهم الدين المسيحي واستعماله وسيلة للسيطرة على شعوب المنطقة في بلاد الشام والعراق ومصر وبعض أنحاء الجزيرة وصولاً الى مشارف أوروبا عند حدود تركيا التي لم تكن موجودة.

بيد أنّ العثمانيين احتلوا منذ 554 سنة مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وأسقطوها بكاملها، وعادوا لاحتلال بلاد الشام وكامل العالم العربي وقسم من أوروبا، مستخدمين الإسلام لكسب ولاء شعوب المنطقة. فيما كان البيزنطيون يستخدمون قبلهم المسيحية لتطويع السوريين والعرب.

وإذا كان هناك إقرار إسلامي ومسيحي كامل بأنّ العثمانيين قوة احتلال لمنطقتنا، فإنّ الوزير ملحم الرياشي يعكس رأي القوات اللبنانية التي تعتبر إسقاط القسطنطينية هزيمة للمسيحيين ودينهم وتسحب هذا الرأي للإشارة الى أنّّ مسيحيّي جبل لبنان مهدّدون بدورهم بمصير القسطنطينية. وهذا خطير جداً لأنه يُبرّرُ للأميركيين والأوروبيين احتلال المنطقة بذريعة أنهم مسيحيون، وقد يعتبر دولة الكيان الغاصب في فلسطين المحتلة شرعية باعتبار أنها حليفة لدول «مسيحية».

هنا لا بدّ من التساؤل: هل الدول الغربية مهتمة بصيانة المسيحية فعلاً أم تهتمّ بمصالحها الاقتصادية؟

وهل تفرّق في دمويتها بين مسيحي وطني ومسلم وطني؟

إنّ مسيحيّي جبل لبنان هم آراميون وسريان وعرب موجودون فيه منذ أكثر من ألف عام ومصيرهم لم يكن يوماً مهدّداً في أنحائه إلا من قبل الدول التي احتلت المنطقة من المماليك والعثمانيين والفرنجة والرومان وأحفادهم البيزنطيين والفرنسيين والأميركيين والإسرائيليين.

واستناداً الى منطق الرياشي فإنّ الانتداب الفرنسي هو حركة لإنقاذ المسيحيين في الشرق واستمرارٌ لمرحلة الفرنجة، لذلك فهو يحذر الوزير باسيل من أن يكون مستقبل المسيحيين في جبل لبنان مشابهاً لمستقبل القسطنطينية، في الوقت نفسه يقول قياديون آخرون في حزب القوات على شاشات التلفزة ومن دون أن يرفّ لهم جفنٌ أنّ حزبهم استمرار لحركات مسيحية كانت تدافع عن المنطقة قبل 16 قرناً فهل هذا صراع على حقائب وزارية أم إعداد لتأجيج عقائدي يتحيّن الفرص لإثارة حروب أهلية هدفها إعادة القسطنطينية «فكرياً» إلى المنطقة بآليات جديدة – ألا يؤسّس هذا الفكر الإرهابي لاندلاع حروب طائفية هي بدورها قيد التأسيس عند جماعات الإسلام المتطرف في القاعدة والوهابية وتشكيلات أخرى موجودة عند جميع المذاهب والطوائف بأجنحتهم المتطرفة الواضحة.

إنّ هذه الوضعية تفتح على سؤالين: هل يمكن تمرير تحالفات سياسية عادية مع حزب القوات اللبنانية وما يشابهها لدى المسلمين؟ وما هو الحلّ؟

لا شك في أنّ التحالف معها سياسياً أو في إطار حكومة واحدة عمل خطير، لأنه يمنحها شرعية من جهة وإمكانية على العمل بين الناس لكسبهم من جهة أخرى، كما أنّ استبعادها قد يستولد تأييداً شعبياً واسعاً لها بحجة المظلومية.

الأمر الذي يجعل من تبني مشروع وطني غير طائفي حلاً مثالياً يقضي على حجج المستندين على عكازات الغلوّ الطائفي لتحقيق مصالحهم.

بيد أنّ المشروع الوطني الفعلي يحتاج الى مرحلة من العمل الشعبي الواسع حتى يصبح معتمداً وينال تأييد الناس وينجح في التصدي لمحاولات قوى المذاهب تعطيله وإلغائه.

إنّ أحداً لا يفهم حتى الآن كيف يعتبر الوزير الرياشي ورفاقه أنّ إمساك القوات بأربع حقائب وزارية يصون الديانة المسيحية؟

ولماذا لا نُعيدُ للدين وظيفته الأساسية في عبادة رب واحد ونترك شؤون السياسة للبعد الوطني فحروب الأديان انتهت يا أستاذ رياشي وحروب اليوم التي بدأت في القرن 19 إنما هي قتال ضروس من أجل وضع اليد على الموارد الاقتصادية في العالم، أما الانقسامات الطائفية فواحدة من الآليات التي تُسهّل للمستعمر وضع يده على كلّ المتوافر في أرضنا لا تبقى وطنية إلا بالدفاع المشترك عنها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى