أردوغان يستعيد المبادرة مع ترامب بعد قضية الخاشقجي
د. هدى رزق
اعتبر امتناع الجانب التركي رسمياً عن التصريح حول موضوع قتل الخاشقجي بمثابة بادرة حسن نية منحت ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز الوقت الكافي للتوصل إلى صيغة ممكنة لتبرير هذه الجريمة. سعت أنقرة لصيغة لا تضرّ العلاقات الثنائية، ولكنها تهدّئ الغضب الشعبي التركي بسبب اختيار تركيا كمكان لتنفيذ هذه الجريمة، لكنها اختارت تسريب معلومات لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية عن القضية للإشارة إلى أنها لن تسمح بإخفاء هذه الجريمة.
أصبح مقتل الخاشقجي أكثر من شأن دولي لأنقرة من أجل منع التستر عن الجريمة كما أصبح التعامل مع هذه القضية مسألة شخصية للرئيس رجب طيب أردوغان. لكنه اتصل في 14 تشرين الأول/ أكتوبر بالعاهل السعودي الذي أكد حرص المملكة على علاقاتها مع تركيا، «بقدر ما تحرص الجمهورية التركية الشقيقة على ذلك»، «ولا أحد سيقوّض قوة هذه العلاقة». وهي إشارة الى ضرورة لململة الموضوع. كان قد أصبح من الواضح تماماً أن أنقرة لن تقف في طريق الولايات المتحدة في محاولتها حفظ ماء وجه الرياض. لو أرادت تركيا تخريب العلاقة الأميركية السعودية علانية، لكانت قد فعلت ذلك بسهولة بالإفراج عن تسجيلات القتل بدلاً من ذلك، أرسلت أنقرة إشارات قوية إلى أنها قد توافق على حلّ وسط مع الملك سلمان. خروج القنصل السعودي العام في اسطنبول محمد العتيبي من تركيا إلى الرياض قبل نصف يوم من وصول بومبيو إلى أنقرة، ربما كان جزءاً من صفقة كبيرة.
لا شك في أنه سيكون لدى السعوديين ضغينة طويلة الأمد ضدّ الحكومة التركية بسبب تعاملها مع جريمة قتل جمال الخاشقجي بعدما قامت الاحتجاجات الدولية ضدّ الرياض، لكن ذلك لم يمنع وزير الخزانة الأميركي ستيف منوشن من الاجتماع مع ولي العهد محمد بن سلمان في الرياض في 22 تشرين الأوّل/ اكتوبر ووفقاً لبيان سعودي، أكد الطرفان أهمية الشراكة الاستراتيجية السعودية الأميركية والدور المستقبلي لهذه الشراكة، وفقاً لرؤية محمد بن سلمان 2030 مع الإشارة الى انه تمّ تجنّب القمة الاقتصادية التي عُقدت في الرياض من قبل قادة الأعمال والسياسيين العالميين.
جاء خطاب أردوغان حول «تعرية الحقائق» في البرلمان في الوقت الذي وصلت فيه مديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبيل إلى أنقرة، لبحث أدلة تركيا. هدف وصولها إلى الإشارة إلى أنّ إدارة ترامب تأخذ الاتهامات التي يتمّ توجيهها بشكل غير مباشر ضدّ ولي العهد السعودي على محمل الجدّ. توكيل هاسبل بالتباحث في المعلومات والأدلة مع رئيس الاستخبارات التركي هاكان فيدان أتى كمحاولة من البيت الأبيض لحماية ولي العهد محمد بن سلمان. لم يكشف أردوغان في خطابه عن وجود شريط صوتي يدوّن بشكل كامل طريقة موت الخاشقجي وحتى الجزء الذي يدين ولي العهد في ذلك. لكنه دعا في انتقاد شديد إلى إدانة «أولئك الذين أصدروا الأوامر» لإعدام الخاشقجي وإخضاع كلّ من نفذها للمساءلة.
هل توقعت أنقرة أن تؤدّي المعلومات التي أعلنها أردوغان إلى تحرك دولي ضدّ الرياض لإجبارها على التحقيق في هذه القضية بطريقة موثوق بها وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة. أم أنها رسالة ذات أوجه متعدّدة منها الى الداخل التركي ايّ الى قاعدة دعم اردوغان الإسلامية التي تكنّ العداء لمحمد بن سلمان بسبب عداوته تجاه الإخوان المسلمين وإلى الأتراك الذين استنفر إعلامهم حتى باتوا يرون انّ المسؤول النهائي عن هذا القتل هو ولي العهد.. انتهز أردوغان الفرصة ليوجه رسالة الى الدول الغربية التي تتهمه بالديكتاتورية ووضع اليد على كلّ السلطة أنه مع الاتفاقات الدولية ومعاهدة فيينا وأنه مع العدالة وتحت سقف القانون، وانّ تركيا لا تقف ضدّ حرية الرأي وهو يطالب بمحاكمة المتهمين في اسطنبول حيث وقعت الجريمة.
كانت «نيويورك تايمز» قد سرّبت ان الامير السعودي خالد بن فيصل التقى سراً مع أردوغان في تركيا، ايّ مع بداية اكتشاف خيوط الجريمة، وعرض عليه مجموعة من الحوافز لإسقاط القضية – بما في ذلك المساعدات المالية والاستثمارات لمساعدة الاقتصاد التركي المتعثر وإنهاء الحظر السعودي على قطر ومن المرجّح أن محمد بن سلمان قدّم بعض العروض الجديدة لأردوغان.
لكن الأمر لا يتعلق بالمال بالنسبة لأردوغان وإنما بإعادة توازن النظام الإقليمي، وقطع جناحات إبن سلمان وإجبار إدارة ترامب على إعادة تقييم استراتيجيتها في صياغة سياستها في الشرق الأوسط حول ولي العهد. يدرك أردوغان أنه بدون دعم ترامب، وفي غياب سعي سعودي لإبعاد محمد بن سلمان، قد يبقى الأخير في السلطة ولو مع صورته العالمية كمرتكب للجريمة. وهو يعي أنّ طلب خفض الدعم المالي السعودي للمقاتلين الأكراد في سورية هو في يد إدارة ترامب الذي حدّد سياسته المعلنة المتمثلة في إبقاء قواته في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في شرق وشمال سورية.
حاولت إدارة ترامب كسب الوقت لكي تتوصل الرياض إلى سردية ما حول مقتل الخاشقجي لم يتحدّد مآل المسألة بين واشنطن والرياض، بل بين واشنطن والرياض وأنقرة. ما لا نعرفه حتى الآن هو كيف يعتزم ترامب أن يشكر أردوغان لعدم تصعيده لأزمة الخاشقجي بشكل أكبر، والتي يبدو أنها أكثر الأزمات صعوبة التي واجهته في السياسة الخارجية حتى الآن. هل سيتمّ منح أنقرة تنازلات سخية عن العقوبات الأميركية المقبلة على إيران، والتي تهدف إلى خفض واردات النفط والغاز من طهران، هي بالتأكيد جزء حاسم من المفاوضات. كانت أنقرة قد أعطت بالفعل إشارات قوية قبل محاكمة برونسون في 12 أكتوبر/ تشرين الأول، على أنّ خفض الغرامة مقبولة بالنسبة مسألة «هالك بنك» المملوك للدولة، حيث تجري حالياً محادثات مع مكتب مراقبة الأصول التابع لوزارة الخزانة الأميركية للتهرّب من العقوبات المفروضة على إيران. في هذا المناخ الجديد، من المرجح جداً أن تضغط تركيا من أجل المزيد من التسامح في الغرامات. ويبدو أنّ فرص قيام الأتراك بقطع صفقات أفضل في كلتا الجبهتين أعلى من أيّ وقت مضى مقارنة بفترة قبل دخول الخاشقجي إلى القنصلية السعودية في اسطنبول في 2 تشرين الأوّل/ أكتوبر.
شكّل الخطأ السعودي القاتل فرصة ذهبية لأردوغان العائد الى الخليج بعد انسحاب تركيا عام 1916 بفضل العلاقة مع قطر ومع الكويت. كذلك من أجل الانتقام المعنوي من السعودية التي انقلبت على سياسته الداعمة للاخوان المسلمين في مصر.