فاصلة بين امرأتين

خلود عبد النّبي ياسين

ديوان «فاصلة بين امرأتين»، للّشاعر اللّبنانيّ محمّد زينو شومان، والصّادر عن «دار الفارابي» في العام 2013، يتضمّن 131 نصًّا مُعنونًا يشكّل كلّ عنوان قصيدة مستقلّة. وإذا كان العنوان باب عبور لذات الشّاعر، فإنّه يعمل من خلاله على أسر المُتلقّي بهدف التعمّق في القراءة والانسجام، من دون التّركيز على الظّواهر المُحيطة بالشّعر والشّاعر الّذي يفصِل بين امرأتين، في عنوان ينطلِق من الذّات الفرديّة، ليُعالج قضايا عامّة، شاملة، آنيّة، وتتجاوز حاضره إلى المُستقبل.

محمّد زينو شومان المُتلبّس بالشّعر منذ تاريخ عودته من السّعوديّة إلى بيروت في العام 1978، هو نفسه القادم من بيئة جنوبيّة كادِحة، ومن أقاصي الظّروف الاجتماعيّة والماديّة الصّعبة إلى بلاد الشّعر، حيث الملاذ والمأمن، وبيدِه فاصلة:

«أهو قلبي بين كفّيكِ رغيفٌ من شغفْ؟

أم هو العشقُ يُناديني..

ولا يترك لي فاصلةً للشّعرِ

بين امرأتيْن»؟

فلماذا يلجأ إلى الفصل بين امرأتين؟ وما هو سرّ الفاصلة المخفي داخل الدّيوان؟ وهل يستطيع الشّاعر من خلال فاصلته أن يُعيد الفاصلة الضّائعة في زاوية التّاريخ المُشرِف على النّهاية بالنّسبة للمُختبئين خلف آيات اللّيل هربًا من نهار عربيّ مُوحِش؟

يُتابع شومان في هذا الدّيوان رحلة التّوغّل في مساءلة الوجود الإنساني، مُبْحِرًا بنا على مركب تتقاذفه أمواج من بحور الكامل والمُتقارب والوافر، وفي أعماقه غصّة قلب مُثقل بالهموم، فيتوغّل إلى أعماق الذّات القلِقة بالمنحى الوجودي، إبّان هذه الطّفرة الّتي قرّبت المسافات حدّ إبعاد الإنسان عن ذاته، مُلتقطًا بعض ومضات صعلوكيّة، ومُلِحًّا على مسألة القلق في أكثر من موضع:

«هناك انتظرتُ طويلاً على باب نُزْلِ القلقْ»

هل لي أن أخرج من قلق لثام الشّعراء؟»

وماذا لو استفحل الظنُّ:

هبني رضختُ لعشقي

وأسلمتُ قلبي

لظفر القلقْ».

وتتنامى الثّنائيّات الدّلاليّة والتّنازعات الضّديّة في أروقة الدّيوان، فنجده يُعيد قيمة المثنّى الّتي اندثرت، وتبدو لغته مستمدّة من الثّقافة والوعي المُتمازج مع اللّاوعي، الممزوج بالقيم الدّلاليّة والإيحائيّة، فالنّصّ الشّوماني، يشهد صراعًا داخليًّا، وتُحيلنا الكثير من مفرداته وتعابيره إلى حالة شعوريّة خاصّة، تنسج فضاءات شعريّة يتكئ فيها الشّاعر على حداثة الصّور، فيُراكم أمام القارئ كمًّا من المصطلحات المُشعّة بالرّموز والاستعارات:

«تتنازعني الأضداد

وجهي ينظر نحوي شَزْرًا

قدماي كأنّهما قيْدان

فمتى تتحرّر ذاتي

من ذاتي؟

إنّها نفثات صدر متألّم ملتزم بخطّ الشّعر في زمن عويل اللّغة على ابنتها الضّالّة القصيدة:

«فهذا القلبُ

لا يُحييهِ

وهو على شفيرِ الموتِ،

إلاّ

قطْرةُ الشّعر الأخيرة»

ويستفيض شومان في الحديث عن الشّعر:

«كم تنفّسنا معًا وتمازجت أشواقنا حتّى

حسبتُ الشّعر ليس سوى يد

تمتدّ من أقصى الزّمن

لتُعيد ترتيب العناصر كي

تُظلّلنا بكفّيْها السّماء».

وما بين الشّعر والمشاعر، تتخطّى الفاصلة حدود الزّمان والمكان، تاركةً للمتلقّي حريّة الانطلاق في عالم الحدس والتّأويل، للفصل بين امرأتين، وبين قافية وإيقاع، وبين رجل وامرأة، وحتّى ربّما بين التّقليد والتّجديد في الشّعر.

لقد جمع محمّد زينو شومان في «فاصلة بين امرأتين» بين غموض الصّور وروعة التّعبير، لكنّ هذه التّجربة الشّومانيّة وعلى الرّغم من جماليّتها ونُضجها، لا تزال بحاجة إلى مزيد من الاستقراء، بوصفها واحدة من أهمّ التّجارب الشّعريّة في هذا العصر.

«أمشي الهُوينا… حائرًا من أين

تأخذني الطّرق

أمشي وأمشي،

ما لهذا القلب يُمعن في التّجاهلِ».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى