ماضٍ سجنته الذّكريات ومستقبلٌ أرهقه الأمل…
فالطّرق والأزمنة تركض باتّجاهاتٍ عشوائيّة علٌها تقف على حدود الدّنيا وتبحث في البريّة عن مرساةٍ لربّان حياتنا وبذور الحبّ الّتي سقيناها بروح التّضحية والعطاء، فتقود سفينة قلبنا وأمواجه العطشى إلى مرفأٍ عذبٍ يحتويه بحبٍّ وأمانٍ لنكمل مسيرة الدّهر.
مَن منّا لم يُبحر في سفن الهوى ولم يسهر مع اللّيل الذّي وصفناه بالحزين، ولكنّه اللّيل الذّي يسدل أجفانه بحبٍّ لنركن لأنسامه الخفيّة التي تحرّك الشّجون.
أتذكّر منذ زمنٍ بعيدٍ أنّه كانت هناك دوّامة ضبابٍ تخفي ظلالاً مضطّربة فوق بحيرةٍ من الشّموع، بخوفٍ ينبض بمشاعر خفيّة في قلبٍ مرهف الأحاسيس.
هل لهذا الخوف أن يتحوّل حبّاً يلهب القلب بمشاعر تحلم سراً بالجمال،
ففي عتمة اللّيل يتأجّج الخيال وتثور الأحاسيس ونستسلم للأحلام والأمل، وسلطان الحبّ تزداد قوّته على الأنفس العطشى، ومن جديد يشحذ اللّيل الهمم وتتخلّى الحواس عن وسائلها الدفاعيّة لتطلق حباً سرمديّاً حيث يبسط الهدوء روعته ببطءٍ ورفقٍ تحت النّجوم المتلألئة.
فالعقل والقلب والرّوح أجمع تحلّق كملائكةٍ على أنغام موسيقا وترانيم قدسيّةٍ كمزامير داوود في صخبٍ مجلجل لتصعد في ملكوتٍ لم يسمع به إنسٌ ولا جانّ.
العيون المتوسّلة تهدّد وتعشق في الوقت ذاته، والكلمات شعرٌ يدفئ النّفس ليزداد عليها سلطاناً وحريّة.
في تلك المتاهة اللّيل أعمى عالمٌ يتبدّد بضوء النّهار ليمنحنا القوة فلا نحدّق في الأعوام الضّائعة والهمسات الهائمة في برودة الشّتاء، فنتجاوز نقطة العودة لنخرج لعالمٍ لا يكتنفه السّواد وإنّما أمل يحيا بجميل الذّكريات ونور الأمنيات التي نهمس بها لقلوبنا في هدوءٍ وحنينٍ وصلاة بصمتٍ يغنينا عن الاعتذار نتزيّن به – دون تكلف – بسفرٍ من غير عناء وهيبةٍ بلا سلطان.
فكل ذواتنا تسبح تحت سلطان الكبرياء ونقاوة القلب. فطوبى لأنقياء القلوب الّذين يهبون لنا في حنايا القلب نوراً يضيء بصيرتنا بشفافيّة وينير دربنا دون مآرب شيطانيّة.
ولنؤمن أنّه لن ترهقنا الآمال ولتبق ذكرياتنا الجميلة تضيء سنين عمرنا مهما تعثّرت مواسم الحصاد كشجر الخيزران تطيل جذوره البناء في الباطن لتنمو بسرعة الخيال بقدرة الجبّار في علوٍّ شاهق يبهر الأبصار فيزهر مستقبلنا بأملٍ محقق بمشيئة القادر. ففي كل محنةٍ منحة ووسط كل حيرةٍ خيرة.
رنا جنيد