لبنان منصّة حوار حضاري وتسويات سياسية

النائب الدكتور فريد البستاني

لا ينتبه كثير من القيادات اللبنانية عبر التاريخ في لحظات التصادم السياسي الظرفي التي تمرّ بها حياتنا السياسية إلى المعاني الكبيرة لوطننا لبنان، التي لا يجوز أن تهتز مع كلّ اهتزاز سياسي، وبلوغها المدى الذي يتهدّد السلم الأهلي وما يفترض أنها ثوابت الإجماع اللبناني الميثاقية، ليستفيق اللبنانيون بعد كلّ محنة سياسية وقد اهتز مفهوم نظرتهم الموحدة للوطن، وبات عليهم ترميمها بدلاً من المضيّ قدماً في ترسيخها، بقدر ما أثبتوا في الأزمات أنها فوق النقاش، ولعلّ الأهمّ بين هذه الثوابت ما يستدعي لفت نظر القادة السياسيين في مرحلة من تاريخ لبنان إلى أهمية صيانتها وتركها بمنأى عن الخلافات السياسية، أن التعدّد اللبناني الثقافي المستند إلى التعدّد الديني هو نعمة لبنان الإلهية والإنسانية كمنصّة فريدة للحوار الحضاري على مساحة العالم، ومصدر لقيمة يحتاجها العالم في أزمات وجودية تعصف بنخبه وشعوبه، وبحثه الدائم عن التصالح التاريخي مع فكرة التعدّد، بعدما صارت الأحادية في الدين واللون والعرق والقومية طلباً مستحيلاً لدول وكيانات قامت بالأصل على أحاديتها، وتكتشف نفسها اليوم وقد اجتاحها بحر التعدّد، بينما بعض اللبنانيين في ذروة أزماتهم السياسية، التي يكتشفون بعد كلّ مصالحة أنها عابرة، يبدو مستعداً للتضحية بهذه الميزة التي نشأ وتأسّس عليها لبنان، وكأنّ الأحادية التي صارت متسحيلة لمن عاش قروناً في ظلالها، ممكنة لمن لم يعرفها يوماً؟

التعدّد اللبناني كنعمة ثقافية وحضارية ليس مجرد دور عالمي للبنان كنموذج حي لحوار مستدام بين تعدّد الألوان والأطياف، بل هو مصدر قوة اقتصادية لا يجوز التهاون في حمايته، فهذا التعدّد هو الذي منح اللبناني الفرد جملة ميزات، جعلت اللبناني المسيحي مختلفاً عن كلّ مسيحي آخر لما اختزنه من جيل إلى جيل من ميزات التفاعل والاختلاط والعيش في بيئة يشكل الشريك المسلم فيها، شريكاً في الطعام واللباس والعادات والثقافة، وفي المقابل جعلت المسلم اللبناني مختلفاً عن كلّ مسلم آخر بما دخل في تكوين شخصيته ومأكله وملبسه وعاداته من تشاركه العيش مع المسيحي، وهذا التبادل والتفاعل ولّد لدى كليهما هذا الانفتاح والقدرة على التعلّم والتأقلم ومؤهّلات اجتماعية مميّزة في ميدان العلاقات العامة والمقدرة التفاوضية والحوارية، وسعة أفق وقابلية ذهنية لقبول الآخر، أيّ آخر، بمحبة وفرح، ولذلك فكلّ تعكير لصفاء هذه البيئة المستندة إلى ثروة التعدّد هو خراب عام مستقبلي لأجيال لبنانية، ولأدوار لبنانية ترتبط بها في كلّ المجالات، عدا عن كونه تضييعاً لفرص عالمية كبيرة أمام لبنان.

من وحي هذا التعدّد ورث اللبنانيون عبر أجيال متعاقبة، تعدّداً في علاقاتهم الخارجية، التي لا تصير عبئاً على لبنان إلا عندما تتحوّل إلى عناصر تنافر داخلي بظهور هذه العلاقات كتبعية لبنانية متنافرة موزعة الولاء لأكثر من خارج، فيقع لبنان ضحية التجاذبات، لكنها قادرة على فعل العكس لو أحسن القادة اللبنانيون توظيفها، فينجح اللبنانيون بجعلها نعمة لا نقمة، عندما يمتنعون عن التحوّل إلى ناقل لنقمة التنافر الخارجي إلى الداخل ويسعون لنقل نعمة التسويات الداخلية إلى الخارج، بتخفيف وطأة علاقتهم بالتعدّد الخارجي عندما يدخل مرحلة التنافر كي لا يحوّل لبنان ساحة مواجهة، والسعي عندما تنضج لحظات التسويات كي يكون لبنان ساحة صناعة الحوار والتفاهمات.

إذا أتقن القادة اللبنانيون إدراك معنى أنّ تعدّد العلاقات الخارجية قابل للتحوّل إلى مصدر قوة للبنان، ونجحوا في إدارة علاقاتهم بهذا الخارج كلّ من موقعه على هذه القاعدة، يكون لبنان فرصة عالمية فريدة للتسويات السياسية، وهي تسويات لا مفرّ منها في غياب فرص الأوهام لدى المتصارعين على الحلبة العالمية والإقليمية، بتحقيق انتصارات حاسمة على بعضهم البعض، ويقينهم المسبق بحتمية بلوغهم مرحلة التفاوض فالتسويات.

إنّ شرط نجاح اللبنانيين في هاتين المهمّتين هو التزامهم الصادق بأنهم لن يوظفوا الصراعات السياسية في لحظات تأزّمها، لتغيير قواعد وتوازنات القبول بالتعدّد الداخلي، بوهم أنّ ميزان قوى عددي أو سياسي أو عسكري يمكن له أن يغيّر فيها دون المساس بمصادر قوة لبنان، الذي سيشكل دائماً الجائزة التي يفترض أنّ المنتصر يبحث عنها، فما جدوى أن ينتصر فريق على فريق ويغيّر لبنان بانتصاره، ليرث لبناناً آخر لا يفيده الانتصار فيه، بينما يمنحه الحفاظ على لبنان بميزات التعدّد الجوهرية، فرصة تحسين مواقعه ضمن لبنان يشكل بذاته معنى ودوراً وأرباحاً لا يمكن لعاقل التفكير بخسارتها، وبذات المستوى التزام اللبنانيين بأنهم لن يوظفوا تفوّق محور إقليمي أو دولي يحالفونه لجعل لبنان ساحة كسر وهزيمة لمحور مقابل يحالفه فريق آخر من اللبنانيين، والسعي بالتالي لهزيمة هذا الفريق اللبناني بقوة هذا التفوّق، بل السعي لجعل التسوية خطاب لبنان ووظيفته، وتقديم التسوية الداخلية كنموذج جاذب للمتصارعين، الذين يحالف كلّ منهم فريقاً لبنانياً، لينطلقوا من لبنان نحو تسوياتهم الإقليمية والدولية.

في هذه اللحظة الساخنة في العلاقات السياسية الداخلية، وهي لحظة ساخنة في التجاذبات الإقليمية والدولية من كلّ الجهات المحيطة بلبنان، تأتي الحملة التي بدأها رئيس الجمهورية من منصة الأمم المتحدة لإعلان لبنان منصّة حوار عالمي دائمة بين الثقافات والأديان، رسالة للبنانيين وليست رسالة للعالم وحسب، فيحضر نداء المعلم بطرس البستاني «يزيد أبناء الوطن حباً لوطنهم الإشعار بأنّ البلاد بلادهم، وسعادتهم في عمارها وراحتها، وتعاستهم في خرابها وشقاوتها… وأمّا الذين يبدّلون حبّ الوطن بالتعصّب المذهبيّ ويضحّون خير بلادهم لأجل غاياتٍ شخصيّةٍ فهؤلاء لا يستحقّون أن يُنسبوا إلى الوطن وهم أعداءٌ له.. وألحق بهم الذين لا يبذلون جهدهم في منع وقوع الأسباب التي من شأنها أن تضرّ بالوطن، أو تخفيفها بعد وقوعها». – بطرس البستاني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى