أميركا و«سلتها» التفاوضية الأخيرة… خيارات ما قبل الرحيل
مهران نزار غطروف
تستعدّ واشنطن فعلياً للمعركة الأخيرة لها في سورية، والتي باتت تطال وجودها بشكل مباشر، بعد معركة إدلب الساقطة سياسياً بالضربة القاضية في «اتفاق سوتشي»، حيث أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم ذلك «بكلّ صدق»، مؤكداً أنه «بعد إدلب هدفنا شرق الفرات»، وذلك خلال مؤتمر صحافي مشترك له مع نظيره العراقي، في 15 أكتوبر/ تشرين الأوّل الحالي.
واشنطن التي بدأت مؤخراً حراكاً فعلياً، يمكن تلخيصه بخطوتين أساسيتين، الأولى: وهي العمل على إعادة التموضع الإقليمي، مع التركي على وجه الخصوص، على خلفية قضية «القس» أندرو برونسون، وصولاً للإفراج عنه، من خلال خلق وركوب قصة الصحافي السعودي جمال الخاشجقي «والهمروجة» المرافقة بكلّ تداعياتها، حتى الكوميدية منها، إضافة للعمل على تسمين «العجل» السعودي ولي العهد محمد بن سلمان، كخيار استراتيجي لها «وكبش فداء» للتضحية به، في أيها تسويات قادمة، بعد إتمام عملية «الابتزاز» الترامبية المستمرة طويلاً، كما يبدو…!
أما الخطوة الثانية: فهي العمل على زيادة وتيرة وحِدة العمل العسكري، من قبل ما يسمّى التحالف الدولي والذي تتزعّمه واشنطن، عبر توجيه عدة رسائل متتالية «بطعم» الفوسفور والدم، توحي بأنها مستعدة للمواجهة في حين حصلت، يترجم ذلك ما قامت به مؤخراً طائرات تحالفها في 13 الشهر الحالي، من قصف عدة مناطق في مدينة هجين شرق مدينة دير الزور بقنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً، أعقبها بعد ذلك بأسبوع ارتكاب هذا الطيران أيضاً، ثلاثة مجازر وقع ضحيتها 62 مدنياً في قرى بمنطقة البوكمال السورية، وكان قد سبق لهذا التحالف أن اعترف في 27 سبتمبر/ أيلول الفائت، بأنه قتل 1114 مدنياً نتيجة عملياته في سورية والعراق، منذ أغسطس/ آب 2014!
هذا وتبرّر واشنطن أفعالها وتحالفها، بأنها تحارب الإرهاب المتجسّد بتنظيم داعش، في حين اعتبر المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري في آخر كلمة له في مجلس الأمن الدولي 17 الشهر الحالي، بأنّ هذا التحالف «قد حارب كلّ شيء إلا الإرهاب»!
لا يخفى على المتابع للشأن الحاكم في الشرق الأوسط، وكلّ ماله صلة بالميدان السوري، أنّ الأمور وصلت مرحلة غير قابلة للجدل في ما يخصّ استعادة الدولة السورية وحلفائها مفاتيح هذا الشرق، من خلال القدرة على إخضاع الإرهاب وضرب أوكاره وفصائله، التي اجتاحت واقع هذا الشرق في الأعوام الماضية.
هذه القدرة التي غيّرت كلّ قول وفعل، كاد يحكم الشرق الأوسط لعقود آتية، كما كان يبدو الأمر، لو وقع! وذلك من خلال فرض معادل استراتيجي جديد، عمّده الحلف السوري الإيراني – الروسي بكلّ شيء ممكن، بدءاً من شراكة الدم وصولاً صواريخ «أس 300» الدفاعية، وما بينهما، وما بعدهما، ربما…
هذا المعادل الجديد ذاته، وضع واشنطن أيضاً أمام خيار وحيد من اثنين، وهو إما خيار المواجهة العسكرية المباشرة مع الدولة السورية وحلفائها، ولا يعوّل على ذلك حتى الأميركي نفسه كما نعتقد، وإما خيار القبول بالخروج عبر مفاوضات توحي بحصوله على مكاسب «وهمية»، تخفيفاً لصيغة «الهزيمة» اللاحقة بمشروعه، حفاظاً لما بقي لديه من ماء وجه، ما أمكن…
ذلك كله ربما، دفع واشنطن لكلّ ما نراها هي اليوم بصدده، من سياسية التضحية بالحلفاء، أو المفاوضة على رؤوس البعض منهم، من خلال إعادة ترتيب «سلتها» التفاوضية وللمرة الأخيرة كما يبدو، في مواجهة مروحة الخيارات الروسية الكثيرة، والتي بدورها وجدت في سياسة مناطق «خفض التصعيد» المحلية، ضالتها ونصرها المجاني حتى الآن، ما دفعها لتعميم تجربتها إقليمياً، اتفاق سوتشي مع تركيا مثالاً، وربما تعميمها دولياً أيضاً، من خلال القمة الرباعية المرتقبة في تركيا، بمشاركة كلّ من ألمانيا وفرنسا، في 27 الشهر الحالي، باعتبارها ساحة جيدة ربما لـ»ضبط الساعات»، بحسب الكرملين.
وأول الخاسرين في هذا السياق كما هو ظاهر، هم جوقة «المطبّلين» لفكرة الانفصال من الكرد السوريين، فهم البيدق الأخير على الأرض السورية بيد واشنطن، وكلّ حديث حول إمكانية التوصل لإقامة كيان انفصالي كردي شرق الفرات، مع الترويج أيضاً بقبول تركي لذلك، شريطة أن يكون كياناً «مقلّم الأظافر» وتحت رعاية أميركية كاملة، هو لا يغدو كونه وهماً لا يمكن تحقيقه لسببين جوهريين:
أولهما، أنه كيان ساقط ديموغرافياً بشكل حتمي، فالبيئة السورية مختلفة عما حولها في هذا المنحى، وثانيهما، أنّ قرار الدولة السورية واضح في هذا الشأن، حيث لا إمكانية لقيام أيّ كيان انفصالي خارج سلطة الدستور السوري، وعليهم أن «يدفعوا ثمن التمسك بالوهم الأميركي إذا ما قرّروا ذلك»، بحسب تصريح وزير الخارجية وليد المعلم 15 الشهر الحالي، أيضا.ً
من الملاحظ في الختام أنّ ميادين مجمل الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، على تناقضاتها، تمُتّ بالصلة والولاء بشكل أو بآخر لواشنطن السعودية وتركيا ، ما يفسّر حقيقة وحيدة، أننا اليوم بتنا بشكل جادّ أمام محاولة أمريكية، للتكيّف مع حقيقة الواقع المفروض في الميدان السوري، سياسياً وعسكرياً، وما كلّ هذا الضجيج حول عودة اللاجئين، وإعادة الأعمار، والعملية السياسية، وغيرها، إلا للمراوغة والهروب من حقيقة الإقرار بالنصر السوري الخالص مع حلفائه، فالأميركي يعلم بأنه سوف لن يستغرق زمن أيّ معركة قادمة، يخوضها الجيش السوري، أكثر من زمن العبور من ضفة إلى ضفة، ومن جهة إلى جهة.
فإلى متى أيها الأميركي؟