«صفقة القرن«.. برؤية مغايرة تماما

حسن شقير

يبدو أنّ الذي ينتظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإعلان عن خطته للسلام بين «إسرائيل «والفلسطينيين، والمسمّاة بـ «صفقة القرن»، يبدو أنه سينتظر طويلاً.. لأنّ هذا الأخير – وبحسب المعطيات الحالية -، لديه مفهومه الخاص لهذه الصفقة.. ومن يعتقد بأنّ هذا الرئيس، سيطرح في البازار السياسي رؤية متكاملة لكيفية حلّ القضية الفلسطينية، والتي يعكف اليوم على جمع التأييد العربي لها… فهو أيضا – لربما – مشتبه وواهم، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الصفقة – الرؤية المزعومة، قد لا تكون بهذا الشكل كلياً.. ومن يتصوّر بأنّ ترامب، وبنقله للسفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإيقافه تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، ومحاولاته المتكرّرة في اجتثاث حق العودة لهؤلاء، وغيرها من الإجراءات التصفوية بحق هذه القضية.. فهي أيضاً جزء لا يتجزأ من هذه «الصفقة الموعودة«… فإنّ هؤلاء أيضاً وأيضاً – وبتصوّرهم هذا – يكونون قد أدخلوا أنفسهم، ضمن لعبة التضليل التي حاكها ترامب، ومن خلفه عتاة المفكرين من المحافظين الجدد المتصهينين..

قد يبدو هذا الكلام مستغرباً، لا بل أنه خارج عن المألوف والمشهور.. إلاّ أنّ الولوج أكثر فأكثر في دهاليز السياسة الشرق أوسطية التي انتهجتها إدارة ترامب في ملفات المنطقة، ومن بينها القضية الفلسطينية، يجعلنا نتوقف لبرهة عند ذاك الخداع الذي مارسه ترامب – المرشح، ومن ثم ترامب – الرئيس، وذلك في ما يعنى بمصطلح «صفقة القرن»، والتي سرّبت إلى الإعلام، على شكل خطة تصفوية للقضية الفلسطينية، جعلت من كثر من الساسة والمفكرين والكتّاب، وكلّ من يُعنى بهذه القضية، بأن يستغرقوا في التحليل تارة والانتظار تارة أخرى لتلك الفصول المنتظرة منها، والتي ستتكشف تباعاً، وذلك بعد ارتكازهم على مقدماتها، والتي أظهرها ترامب متعمّداً مما جعل من هؤلاء بأجمعهم – مخلصين للقضية وغير ذلك -، في واد، وترامب ونتنياهو في واد آخر، خصوصاً أنّ هذين الأخيرين، قد وضعا أولئك في مسار إلزامي، بالعمل على إعداد إجراءات لمواجهة تلك الفصول المطروحة والمنتظرة لتلك الصفقة – التقليدية.. وذلك توخياً منهم للحدّ من أضرارها.. الأمر الذي جعل عرّابا الصفقة – الحقيقية، مشغولان في حياكة فصولها الخطرة، وبعيداً عن أعين كلّ أولئك، وذلك على كافة الأصعدة الدولية، الإقليمية، وصولاً إلى الفلسطينية، فكيف ذلك؟

– على الصعيد الدولي، لعلّ المعطيات توحي بأنّ ترامب – نتنياهو، قد عقدا صفقة من نوع آخر، متمثلة بإخراج كلّ الأطراف الدولية من أية رعاية محتملة لما يسمّى بعملية السلام مع الفلسطينيين، وذلك بغية فرملة كلّ الطروحات الرامية إلى عقد ما تسمّى بمؤتمرات السلام، وتعطيل كلّ دور لما يسمّى بالرباعية الدولية، وصولاً إلى إشغال ترامب للعالم – وهنا الأشدّ خطراً -، وبدوله كافة من أصدقاء وخصوم بحرب تجارية ومالية واقتصادية، وحتى عسكرية.. جعلت من هؤلاء جميعاً بأن لا يكون لهم ترف الإلتفات لتقديم أية رؤى ومشاريع ومقترحات تتعارض مع رؤية ترامب – نتنياهو، لكيفية إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها.. الأمر الذي فرض على كلّ أولئك الخصوم والحلفاء، أن يتراجعوا عن تقديم أية تصوّرات محتملة لكيفية إخراج «عملية السلام« من سباتها، وهذا طبيعي، وبعلّة انشغالهم في مواجهة صفعات ترامب المتتالية لهم، وعلى كافة الأصعدة.. مما جعل صفقة القرن الترامبية – وفي شقها الدولي – تطبخ على نار الصفعات المتلاحقة، والتي يوجهها ترامب لهؤلاء يوماً بعد يوم أليس هذا جدير بالتأمّل؟

– أما على الصعيد الإقليمي، وبفعل التوافق بين عرّابي صفقة القرن الحقيقية حول ضرورة تبني رؤية نتنياهو المتمثلة بأنّ «القضية الفلسطينية ليست الممرّ الإلزامي للتطبيع مع العرب، إنما العكس هو الصحيح«، وعليه، فإنّ صفقة القرن هذه – وبشقها الإقليمي -، جعلت من مسار الدول العربية، وتحديداً الخليجية منها، يتجه وفقاً لرؤية نتنياهو، فكان لا بدّ من تفعيل مشروع «المظلة الأمنية العربية – الإسرائيلية«، والتي أوردها أوباما في استراتيجيته الأولى للأمن القومي في العام 2010، ولتحقيق ذلك، كان لا بدّ، من خلق عدو مشترك لجناحي هذه المظلة، بحيث كانت إيران هي الوجهة، فكانت الحرب على اليمن في العام 2015 مفتاحاً إلزامياً لتلك المظلة، وكان حصار قطر من قبل الرباعية العربية عنصراً جاذباً لكلّ من المحاصِر والمحاصَر على حدّ سواء، نحو الاندفاع أكثر فأكثر في كسب ودّ المايسترو الأميركي، والذي يدير الأزمة ويرفض حلها.. مما جعل من هذه الدول غارقة في كيفية الخروج من عنق أزماتها، وبعيداً كلّ البعد عن القضية الفلسطينية، وثوابتهم المعلنة تجاهها.. فكانت صفقة القرن – وبشقها الخليجي-، تجسيداً لما يحدث اليوم من تطبيع وهرولة وتسابق نحو الكيان الصهيوني، وخطب ودّه بدلاً من الوقوف – حتى كمحايد – بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني، وذلك على أسوأ تقدير مع الأسف الشديد أليس هذا هو الواقع العربي اليوم؟

لم تكن إيران بعيدة عن صفقة القرن الحقيقية بين عرّابيها، فهي كانت وما زالت تشكل العقبة الكأداء في طريق فرض تسوية مجحفة بحق الفلسطينيين، وذلك بفعل دعمها المتواصل لحركات المقاومة، فكان أول غيث تلك الصفقة، أن خرج ترامب من الاتفاق النووي معها، معيداً فرض العقوبات القاسية عليها، مضافاً إليها، تهديده لكلّ الدول التي ستبقي على تعاملاتها التجارية معها، بالقصاص والعقوبات المماثلة، تالياً عليها دفتر شروط، كانت قد رفضته من قبل، والمتمثل بربط السلة النووية بباقي السلال الأخرى، والتي طالما نادى نتنياهو بضرورة تلازمها في أيّ اتفاق تعقده أميركا مع إيران والهدف الخطير والمعلن والواضح هنا، يتمثل بضرورة إخراج إيران من دورها في المنطقة، مضافاً إليه، السعي الحثيث لـ »تفليس المصرف المركزي للإرهاب«، وذلك على حدّ وصف وزيرة الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الإبن، كونداليزا رايس.

إذاً صفقة القرن في بعدها الإيراني، تتجسّد اليوم بين عرّابي هذه الصفقة بشقين أساسيين، يتمثل أولاهما بتجفيف مصادر تمويل المقاومة الفلسطينية من جهة، وبإنهاك إيران وإلهائها بأزماتها الداخلية، نتيجة العقوبات الأميركية عليها، من جهة أخرى.. أليس هذا هو المأمول حدوثه اليوم إيرانياً؟

– أما فلسطينياً، فإنّ صفقة القرن الحقيقية بين عرّابيها، تبدو أنها متمثلة بضرورة تعميق الإنقسام الفلسطيني بين قطاع غزة، وما تبقى من أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وذلك بتحويل الصراع الفلسطيني مع المحتلّ إلى صراع على من يتخذ القرار على أرض فلسطين، وذلك ليس للتفاوض مع المحتلّ، أو حتى لمقاومته، بل لأجل إبرام «تهدئة« معه بغية التخفيف من الضائقة المعيشية في القطاع المحاصر، وصولاً لنقل الحصار الصهيوني على الشعب الفلسطيني برمّته، إلى حصار للفلسطينيين على بعضهم البعض! ليترافق هذا وذاك، مع تقديم ترامب ونتنياهو نفسيهما بأنهما أرأف بأحوال الفلسطينيين من بعض إخوانهم الفلسطينيين، ومع الأسف الشديد.. فكانت صفقة ترامب – نتنياهو على الضفة الفلسطينية، ترجمة لمقولة موشيه يعلون، والتي اختصرها «.. بأن سعادتنا تكمن بأن يقتل أعداؤنا بأيدي أعدائنا الآخرين..» وذلك بغضّ النظر عن طريقة القتل، أليس هذا ما يحدث

بكلمات معدودة، لعلّ «صفقة القرن» التي كثر الحديث حولها، ليست سوى صفقة تحاصر القضية الفلسطينية، وعلى كافة الأصعدة، وفي كلّ الميادين والأزمنة… ولعلها صفقة، تعنى بهندسة مناخ دولي وإقليمي وحتى فلسطيني، يُراد للزمن به أن يطول ما أمكن.. حتى لا يبقى من فلسطين إلا ذكراها فقط.

باحث وكاتب سياسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى