معايير التطبيع في لبنان من أين تبدأ؟
د. رائد المصري
بهدوء… فإنّ عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء في لبنان رغم كلِّ الاستحضار والاستنفار المذهبي المقرون بتهديدات وبرغبات وتمنيات فقهية شرعية حاولوا تسويقها لتعزيز وتقوية شرعية الحريرية السياسية مع تشكيل الحكومة، وما برز من مستجدّ في تمثيل النواب السُّنة المستقلِّين من خارج عباءة المستقبل والتي غاب أفُقها مع غياب الدور السعودي في الإقليم والذي تتمّ إعادة ترتيبه من الداخل وهو أقلّ الأثمان المدفوعة في مندرجات الصفقة بعد مقتل الخاشقجي وتقطيعه وتذويبه وتحلُّله، ليبقى منطق التفاهم سائداً مع الرئيس عون حول إزالة هذه العُقدة لا سيّما أنّ المحيطين برئيس الجمهورية لم يضعُوه في جوِّ هذه الحالة السياسية المؤسِّسة لتيار وطني وقومي وعروبي، والمدعومة من حزب الله والحلفاء، وله حيثية تمثيلية تساعد على منع الشَّطط لما يريده صقور المستقبل وحلفاؤهم جراء تماهيهم مع السعودية ودورها المفقود نحو المسار التطبيعي مع الكيان الصهيوني، وهو المشروع الذي يَبني عليه ترامب آمالاً لتعويم نتنياهو عربياً وخليجياً ووضع السُّنة في لبنان تحت ضغط الأمر الواقع بالسَّير على هذا المنوال التطبيعي الخطير…
إذن، فهي معادلة كسر الاحتكار والاستئثار لمرة واحدة وستكون كفيلةً بتحطيم هذه الغيتوات المذهبية والطائفية المُنغلقة، وستعمل على توسُّع الحالة الوطنية حتى لو كان هذا التمثيل اليوم في الحكومة على القاعدة المذهبية لأنَّه بالأصل هو قانون انتخابي نسبي تحكُمه المذهبية، فهناك نواب نجحوا بعشرين ألف صوت تفضيلي ونواب نجحوا بــ 200 صوت ودخلوا الندوة البرلمانية… فلماذا تطبيق المعايير بازدواجية حيث شملت زعامة جنبلاط وخلقت قبولاً عنده للشراكة السياسية، وكذلك التيار الوطني الحر مع قرينيه المسيحيين، وبات الأمر محرَّماً على الطائفة السُّنية في الاعتراف بأحقية وتمثيل قوى سياسية أثْبتت حضورها ودورها؟ إذن فهناك قُطَبٌ مخفية كأن يُراد القول والإيحاء بأنَّ هذه الطائفة بغالبيتها تحت العباءة الحريرية وليس هناك من شراكة حقيقية، للزجِّ بها مستقبلاً في أتون اصطفافات مذهبية وطائفية حادة عنوانها تطويق المقاومة واحتوائها ومشروعها تنفيذاً لإرادة خارجية إقليمية لم تشبَع بعد من دماء العرب والمسلمين خدمة لمشاريع الهيمنة الاستعمارية الأميركية والصهيونية، وها هي اليوم تتقدم بخطى ثابتة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني بصورة علنية وبدون خجل…
وإذا كان تطبيق معايير نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بحرفيته، فعلى الرئيس المكلَّف القبول بتمثيل وزاري للحزب القومي مثلاً وتسهيلاً لإنتاج حكومة وحدة وطنية لا تحكمها المعايير المذهبية والطائفية، وهنا يتوجَّب على الحلفاء في 8 آذار الالتفاف حول موقف حزب الله كحليف أساسي لمنع الاحتكار وتسهيل عملية التشكيل، لا أن يُترك وحيداً في دفاعه عن حلفائه فتتوجَّه إليه أصابع الاتهام بالتعطيل وهو ما يُفقِد بالتالي أهمية نتائج الانتخابات التي ربحتها أغلب قوى 8 آذار بأكثرية موصوفة ومهمة وبضرورة استثمار وتفعيل هذه النتائج على الأرض وصرفها بما يخدم الحالة الوطنية العامة التي تمنع أيَّ احتكار لتغليب المنطق المذهبي الذي يضرُّ بالكيان وبوجوده ودوره…
يتصرف الرئيس الحريري وكأنه المنتصر في الانتخابات النيابية رغم التأكيد على تكليفه مرة بعد مرة، ورغم الإحاطة بأهمية موقع رئاسة الحكومة وقوتها، لكن ذلك لا يعطيه الأحقية في تهميش واختصار كلّ الحالات السياسية الموجودة وقواها السياسية التي دفعت أثماناً باهظة نتيجة الخطاب المذهبي والطائفي القبيح والذي استفادت منه تكتلات الطوائف والقوى والمحميات لتعيد رهن البلد للخارج من جديد وتعطيل عملية التنمية والتطور والشراكة… فهل يريد الحريري وفريقه السياسي إعادة صياغة تحالف مذهبي طائفي يكون هو فيه الرمز المختصر للصلاحيات الحكومية وإعادة تجديدها بقوة دار الفتوى منعاً لاستكمال الخطاب الوطني والقومي والعروبي الذي يحمي لبنان من مخاطر التقسيم والاصطفاف؟
المنطقة والإقليم تتبدَّل فيهما موازين القوى بسرعة بالرغم من حالات المدِّ والجزر التي تُبقي فيها أميركا وحلفها عملية الاستنزاف والمناورة، لكن لا يبدو أنّ ذلك يصبُّ في مصلحة الحلف السعودي الأميركي ومشروعهما، فالرِّهان على مشروع العقوبات الأميركية الجديدة بحقِّ إيران قد فشل من قبل أن تبدأ تلك العقوبات، خصوصاً بعد قراءة مواقف وردود الأفعال الدولية الشاجبة والمستنكرة والمعتكفة عن السَّير بهذه العقوبات، وكذلك منطق التبرُّم والمراوغة وإعطاء مساحات لتنظيم داعش الإرهابي للتمدُّد في سورية سيزيد من إصرار وقوة الدولة السورية في الحضور المباشر، والتكفُّل بصفقة القرن وتسويقها ها هو حامل مشعلها قيد المساءلة والتنحية إذا لم يكن أكثر، والدور السعودي في الإقليم الى تراجع حيث يتقدم الدور التركي كبديل إقليمي وازن تريده أميركا والغرب وحتى الروسي… فكلُّها ترتيبات دولية وإقليمية لن تكون بعيدة التأثير عن حالة تشكيل الحكومة في لبنان وستخفِّف من وهْج الرؤوس الحامية وصقور الإدارة الأميركية والخليج في لبنان بضرورة القراءة السياسية الواقعية والتسليم بالحق الذي ضاع على أغلبية الناس منذ عام 1992.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية