هل اقتصاد المعرفة… ترف أم احتياج حقيقي؟
د. لمياء عاصي
منذ فجر التاريخ، لعبت المعرفة دوراً كبيراً في تحقيق التنمية الشاملة، وتمحورت معظم السياسات الاقتصادية حول سبل تعظيم استغلال الموارد الطبيعية والبشرية، ومع انتشار وسيطرة تقنيات الاتصالات والمعلومات واندماجها في عمليات الإنتاج، غدت المعرفة الرافعة الأساسية للنمو الاقتصادي في الدول المتقدمة والنامية على السواء… في عصرنا الحالي، أسهمت ثورة المعلومات والاتصالات في تغيير نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأدّت إلى تغيير جذري وعميق في المجتمعات مستندة إلى النظم التعليمية العالية الجودة والبنى التحتية القوية في الاتصالات والتقنيات، وأصبح توفر المعلومة حال طلبها ومن خلال وسائل مختلفة من مزايا حياتنا اليوم.
يعرف الاقتصاد المعتمد على المعرفة، بأنه مجموع الأنشطة الاقتصادية التي تقوم بالإنتاج المادي والرقمي واستغلال المعرفة وإنتاجها وباستخدام التقنيات العالية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي معتمدة بشكل رئيسي على امتلاك العامل البشري للقدرات والمهارات اللازمة لإنتاج منتجات رقمية، قد تفوق في قيمتها المنتجات التقليدية، مثل البرمجيات والتطبيقات الحاسوبية المختلفة على الشبكة وفي كلّ المجالات الصناعية والخدمية، وبرامج الألعاب والتعليم الاكترونية التي باتت تشكل رقماً كبيراً في السوق العالمية، وتقدر الأمم المتحدة أنّ اقتصادات المعرفة، تستأثر الآن بـ7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتنمو بمعدل 10 في المئة سنوياً، كما أصبح لها زبائن واتجاهات ومنتجون وتقنيات، وجدير بالذكر أنّ 50 في المئة من نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي هو نتيجة مباشرة لاستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
تقليدياً، هناك عوامل أربعة للاقتصاد وهي: العمالة رأس المال المواد الأولية وريادة الأعمال، ويؤدّي استخدام المعرفة دوراً مهماً في خلق القيم المضافة لتعزيز تنافسية المنتج ونمو الإنتاج، بينما في اقتصاد المعرفة فإنّ العامل الرئيسي هو رأس المال البشري، وما يملكه من القدرة على الخلق والإبداع وتوليد أفكار جديدة واستثمارها واستخدام التقنيات المتطورة بالشكل الأمثل.
السؤال الآن، هل الحديث عن اقتصاد المعرفة في هذه الظروف الصعبة يعتبر من قبيل الترف الفكري أم هو حاجة ملحة تفرضها المشاكل الجمة التي تعتري الاقتصاد السوري اليوم؟! يمكن التوجه إلى الصناعات الكثيفة المعرفة التي لا تحتاج إلى إمكانات كبيرة ورؤوس أموال ضخمة لإقامتها، وفيها اعتماد رئيسي على رأس المال البشري، لتسهم جدياً في معالجة مشكلة البطالة ورفع الناتج المحلي الإجمالي، ومن هذه الصناعات نذكر على سبيل المثال لا الحصر: صناعة البرمجيات وتطوير المواقع الالكترونية وخصوصاً أنها في حالة نمو مذهل في ظلّ تنامي التجارة الالكترونية، تطوير وابتكار أفلام الكرتون للأطفال التي أصبحت اليوم تمثل سوقاً كبيرة على مستوى العالم… وفي هذا السياق، فإنّ أهمّ ما يميّز المنتجات الرقمية، أنها لا تحتاج إلى مواد أولية، والكلفة الأساسية تكون لمرة واحدة، بعدها يمكن إنتاج عدد لا نهائي من النسخ من دون أكلاف إضافية تذكر، ما عدا عمليات التغليف والتعليب والدعاية، إضافة إلى أنّ المنتجات الرقمية ليس فيها أي استهلاك للثروات الطبيعية، ولا ينتج منها أيّة مخلفات.
تعتبر التجربة الهندية في بانغلور فالي Bangalore valley، أنموذجاً مثالياً لصناعة البرمجيات ينظر العالم إليها بتقدير كبير، إذ يعمل المبرمجون والمهندسون في الهند مع زملائهم في سيليكون فالي في الولايات المتحدة في تطوير وهندسة البرمجيات، بينما يقوم آخرون في معالجة المكالمات الواردة من زبائن حول العالم من قبل مراكز اتصالات في الهند، يمكن أن يكون إتقان الهنود للغة الإنكليزية هو أحد أسباب نجاحهم، ولكن مستوى المعرفة بتقنيات الكومبيوتر ووجود البنية التحتية اللازمة والموثوقة في مجال الاتصالات هو العامل الأهم، وبفعل تلك الأنشطة المعتمدة على المعرفة، يعتبر بانغلور فالي ثالث أكبر تجمع اقتصادي في الهند مولداً للدخل والثروة.
إنّ صناعة البرمجيات في سورية يمكن أن تشكل قطاعاً اقتصادياً واعداً، نظراً إلى وجود نسبة كبيرة من الشباب الموهوبين والقادرين على تحقيق نجاحات كبيرة، إضافة إلى وجود بنية اتصالات مقبولة ويمكن أن تخدم هذا النوع من الأعمال، فيما لو جرى اتباع سياسات ومبادرات لتشجيعها وتنميتها، وعلى رغم أنّ الجمعية المعلوماتية السورية، تقوم بتحفيز وتشجيع الشباب في هذا المجال، وتدير حاضنة للأعمال في البرمجيات، وتقدم لرواد الأعمال تسهيلات لوجيستية مختلفة… ولكنها تبقى جهوداً محدودة الأثر.
لعلّ العائق الأهمّ في إرساء صناعات المعرفة هو عدم وجود سياسات حكومية تجعل الاستثمار في الموارد البشرية واستغلالها بالشكل الأمثل أولوية وطنية، تضاف إلى ذلك القرارات الغارقة في البيروقراطية والآليات النمطية، حيث التردّد هو الأكثر حضوراً في قرارات الحكومة، فقد سمعنا عن القرى الذكية لإقامة صناعات كثيفة المعرفة وغيرها من المشاريع، ولكنها بقيت حبيسة الأدراج، ثم تأتي العقوبات الدولية على سورية في المرتبة الأخيرة.
من الجدير القول، إنّ التعامل مع إرساء صناعات اقتصاد المعرفة كقضية واعدة واستراتيجية، لتحفيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ورفع الناتج المحلي الإجمالي، لا يمكن أن يتمّ من خلال خطوات خجولة ومتردّدة، بل إنّ إحداث نقلة نوعية في هذا الإطار يستلزم:
وضع وتبنّي سياسات محدّدة حول اقتصاد المعرفة والصناعات المرتبطة به، وجعلها أولوية على مستوى الاقتصاد الوطني، واتخاذ خطوات واضحة المعالم والنتائج.
وضع سياسة تعليمية عالية التركيز على التقنيات الحديثة اللازمة والمستخدمة في الصناعات الكثيفة المعرفة، لتخريج كوادر كفوءة من الجامعات.
توفير المراكز والحاضنات المجهزة بأجهزة الكومبيوتر والشبكات وملحقاتها، وضمان مستوى وثوقية مقبول للاتصال بالانترنت لمساعدة الشباب لبدء أعمالهم.
التشبيك مع الشركات والمنظمات المعنية، للتواصل والانخراط في التوجهات الجديدة مع للسوق العالمية.
المساعدة في تسويق المنتجات، والانضمام إلى قواعد البيانات العالمية والانخراط في الشبكات ذات العلاقة والمشاركة في المعارض الدولية.
اعتماد وتبنّي المعايير العالمية في صناعة البرمجيات والمنتجات الرقمية والأنشطة الرديفة لها.
إعطاء منتجات هذه المراكز البرمجية صفة المنتج المحلي وحمايته.
إنشاء المراكز التعليمية لتطوير المهارات والمعرفة عند المبرمجين ومهندسي النظم لتأهيل وتدريب مطوّرين جدد.
تأمين التمويل اللازم للشباب الذين يريدون تأسيس أعمالهم في هذا المجال، وضمان الوصول إلى رأس المال من خلال القروض المصرفية.
إنّ تحقيق بداية نهوض للصناعات الكثيفة المعرفة ليس معجزة، ولا يحتاج إلى استثمارات ضخمة، بل إلى الإرادة أولاً، ثم إلى مجموعة قرارات وقليل من الأموال للتجهيزات… وتجميع القدرات والطاقات لاستثمارها بالشكل الأمثل الذي يخدم سورية.
وزيرة سابقة في سورية