الكاتب والمترجم سهيل إدريس عاش في شبه مجاهدة ثقافية نهضوية اتّسعت لآمالٍ كثيرةٍ

سليمان بختي

سهيل إدريس 1929 2008 تمرّ ذكراه العاشرة بصمت وخجل، هو الذي كان الروائي، القصّاص، المترجم، الصحافي، الناشر، مؤلّف القواميس، والأكاديمي وأحد مؤسسي اتحاد الكتّاب اللبنانيين. رجل من حروف وكلمات. عاش حياته في شبه مجاهدة ثقافية نهضوية اتسعت همته لآمال كثيرة. نهل العلم من مدارس بيروت، المدينة التي أحبّ والشاهدة على نجاحاته وإنجازاته. درس بداية في المدارس الدينية ولبس العمامة لفترة وخاض صراعاً بينه وبين نفسه والمجتمع ليشقّ طريقاً مغايراً. وكتب هذه السيرة في روايته »الخندق الغميق» 1958 التي انتهت بمغادرته لبنان إلى فرنسا. ولكن قبل ذلك عمل في الصحافة محرراً في جريدة »أخبار المساء» و»الأنوار» و»الصياد» و»الجديد». كما أعدّ بعض البرامج لإذاعة »الشرق الأدنى». سافر إلى فرنسا ملتحقاً بجامعة »السوربون» لإعداد الدكتوراه بمنحتين: الأولى من وزارة التربية والثانية من جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية». وكان موضوع أطروحته »الرواية العربية الحديثة من 1900 حتى 1950 والتأثيرات الأجنبية فيها».

أنشأ عام 1953 مجلة »الآداب» مع بهيج عثمان ومنير البعلبكي ثم استقلّ بها عام 1956 وعرفت »الآداب» حضوراً وشهرة ودوراً ريادياً في لبنان والعالم العربي. واستمرّت في الصدور منذ تأسيسها 1953 وحتى العام 2012 أي بعد وفاته بأربع سنوات بهمّة ابنه سماح إدريس.

أراد سهيل إدريس أن يجعل من المجلة منبراً للفكر القومي العربي. ولعلّ نكبة فلسطين هي التي حرّكت لديه فكرة احتضان أدب ملتزم يدنو الى تعبئة الشعور القومي عند طريق الأدب. وظهر على صفحاتها أدباء ونقّاد وشعراء لبنانيون وعرب كثيرون وأهمهم: بدر شاكر السياب، نزار قباني، خليل حاوي، عبد الوهاب البياني، سعدي يوسف، محمد الفيتوري، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم. وفي الستينيات ظهر محمود درويش وسميح القاسم وحسب الشيخ جعفر وعز الدين المناصرة وممدوح عدوان وأمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو ستة ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيغ والياس لحود وغيرهم .

أسّس مع الشاعر نزار قباني »دار الآداب» واستقل بها في العام 1961 وعرفت الدار أيضاً انتشاراً راسخاً وقوياً في لبنان والعالم العربي. وخصوصاً في مجال الرواية والترجمة لنتاج التيار الوجودي في فرنسا والذي مثّله جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار والببير كامو وفرنسواز ساغان. ترجم إدريس أكثر من 20 كتاباً من الفرنسية الى العربية مغنياً المكتبة العربية. كما درّس مادة الترجمة لفترة في جامعة بيروت العربية.

انهمك بعد حرب 1967 على تأليف القواميس فأنجز »المنهل» مع جبور عبد النور وعمل أكثر من ربع قرن مع صبحي الصالح وابنه سماح على طبعة عربية فرنسية وعربية عربية منه.

أسّس عام 1968 مع 4 كتّاب لبنانيين هم قسطنطين زريق وجوزف مغيزل ومنير البعلبكي وأدونيس »إتحاد الكتّاب اللبنانيين» وانتُخب أميناً عاماً لثلاث دورات متتالية. والحال أن الرواية كانت خياره وغرامه الأول ولكن ضاع وقتها في استغراق إدريس في العمل في الترجمة وإدارته لمجلة »الآداب» و»دار الآداب»، لكنه كتب وأبدع.

عكست رواياته وقصصه حياته ومرآة أيامه. وبرأيه إن العمل الروائي يجب أن يعبّر عن العام بواسطة الخاص وأن يكون موضوعياً في ما هو ذاتي. كتب »أقاصيص أولى» نشرها كاملة في العام 2000. وكتب »الحي اللاتيني» 1953 وصور فيها إدريس الصراع بين الشرق والغرب ولعلها من الروايات الأولى التي تصدّت لإشكالية الشرق والغرب. قال عنها نجيب محفوظ »الحي اللاتيني معلم من معالم الرواية العربية الحديثة» .

أسمعه كيف ينهي روايته »الحي اللاتيني»: »لا ما انت بالحالم، وقد آن لك أن تصدق عينيك، أو ما تشعر باهتزاز الباخرة وهي تشقّ هذه الأمواج، مبتعدة بك عن الشاطئ، متجهة صوب عاصمة بلادك. لقد انتهينا اذن الآن يا بني، أليس كذلك؟ فأجابها من غير أن ينظر إليها، لا بل الآن نبدأ يا أمي».

كما عبّرت روايته »الخندق الغميق» 1958 عن الصراع مع الذات لإيجاد الطريق. لعلّه صراع بين جيلين ومفهومين وبين الجمود والتحرّر وصراع التحولات الاجتماعية. أما روايته »أصابعنا التي تحترق» 1962 صوّرت حياته بعد عودته إلى بيروت وتأسيسه مجلة »الآداب» وفيها رصد لحياة العديد من مبدعي لبنان مثل رئيف خوري وحسين مروه وسعيد تقي الدين وسعيد عقل ونزار قباني وغيرهم. كما نشر سهيل إدريس الجزء الأول من مذكّراته بعنوان »ذكريات الأدب والحبّ» 2002 مستوحياً من تجربته ورماد الذاكرة. وفي الفكر والنقد كتب »في معترك القومية والحرية» و»مواقف وقضايا أدبية».

لا أزال أذكر في بداية الستعينيات عندما احتفلنا بخمسينية »الآداب» اقترحت على الشاعر شوقي أبي شقرا ـ كانت الصفحات الثقافية في جريدة »النهار» في عهدته ـ تخصيص صفحة للآداب، فقال: لا بل صفحتين واحدة لحوار سهيل إدريس والثانية لشهادات عن المجلة من كتّابها».

أذكر أنني توجّهت لزيارته في مكتبه ولما تبين سبب الزيارة، قال: »أنت قادم من »النهار» لمحاورتي وبيننا وبين مجلة وشوقي أبي شقرا والنهار ما صنع الحدّاد ولكن لنحاور».

وأضاف: »مرجعنا في الكتابة الجاحظ وصاحبك شوقي مرجعه كليلة ودمنة». تعدّدت في ما بعد اللقاءات وكان حواراً مطولاً معه لكتابي »إشارات النصّ والإبداع» 1995، وكان كذلك بيننا ردود في ملحق »النهار» حول كتاب: »يوسف الخال ومجلة شعر» 2004 للمشتشرق الايطالي جاك اماتسي. ثم كتب مقالاً نقدياً عن كتابه »ذكريات الأدب والحب».

في الفترة الأخيرة من حياته بدى سهيل إدريس مسكوناً بما يبقى وبما يزول، يعتصره الهمّ والقلق على لبنان، وعلى ما أنجز وما يهدّده الاندثار والنسيان. ثادراً كأنه يرى ولا يرى.

أخذ سهيل إدريس في ذكراه العاشرة يستحق السؤال لماذا لم يأخذ حقّه بالاعتبار في مدينته وبلده؟ تذكره النادي الثقافي العربي غير مرة حين أطلق على دورة معرض بيروت 2009 اسم سهيل إدريس. وكذلك معرض المغرب للكتاب العربي أطلق اسمه أيضاً على إحدى دوراته.

ذلك الحاضر بقوة إبداعية وترجمة، على مستوى النشر العربي ومستوى العمل الثقافي المؤسسي، لم تلتفت إليه الهيئات الثقافية والاجتماعية الرسمية في بلاده ولم تبادر الى إحياء ذكراه. لا شارع باسمه في مدينته ولا طابع تذكاري ولا لفتة تقدير لما أعطاه.

هذا الأديب البيروتي اللبناني العربي كان في زمانه ومكانه علماً وعنواناً وعاصمة ومنارة من منارات الأدب والثقافة في لبنان والمشرق العربي .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى