العلمنة والتديّن والطائفية
النائب د. فريد البستاني
يعيش العالم كما تعيش المنطقة، ومن ضمنهما بلدنا لبنان، تحت وطأة خلط عفوي مرة ومقصود مرات بين التديّن والطائفية، فالخداع البصري الناتج عن كون خطوط الفصل الاجتماعي والسياسي بين أتباع الديانات هي ذات خطوط الفصل بين ما يعرف بالطوائف كجماعات سياسية واجتماعية، يسهل الظنّ بأنّ السلم الاجتماعي والسياسي بين الطوائف يمرّ حكماً بحوار بين الديانات، بينما يوصلنا التدقيق البسيط في الظواهر نفسها إلى حقيقة أنّ التديّن هو تسامح واعتراف بالآخر ومحبة للعيش معه كنعمة إلهية، وأنّ الطائفية غير الطائفة أيّ الجماعة التي يربطها الانتماء لمذهب ديني واحد، فالطائفية هي العصبية القائمة على التمييز العدواني الذي يقوم على رفض الآخر واعتباره مصدراً للخطر، والطائفية هنا لا تختلف بشيء عن كلّ عصبية أخرى عرفتها البشرية بين الجماعات المتجاورة في العيش الاجتماعي والسياسي، كما هي الحال بين القبائل والعشائر، أو بين القوميات، أو بين الأعراق والألوان، وتسبّبت بحروب تسعى الجماعة العصبية عبرها لإلغاء جماعة مقابلة أو للانفصال عن العيش معها.
جاءت العلمنة في بدايتها وصفة لحلّ مشكلة لا علاقة لها بالطائفية، ويقع خداع بصري ثان لدى الناس، نخباً وقادة ومواطنين، في النظر للعلمنة كوصفة لعلاج الطائفية، نظراً لكونها قامت على الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وهي جاءت علاجاً لتدخل المرجعيات الدينية في إدارة الشأن العام وتولي الحكم، لتدعو لدولة مدنية لا يدخل الدين فيها ولا في نصوصها، ولا في مرجعياتها، ولأنها ترسم خطاً فاصلاً بين الدين والدولة، والطائفية ترسم في الظاهر خطوط تشابك بين الدين والدولة، وقع الخداع البصري الثاني بتوهّم أنّ العلمنة علاج للطائفية، وهي في كثير من الحالات عصبية ثقافية اجتماعية سياسية قادرة على التنفس في ظلّ العلمنة، والتسلّل من قلب قواعدها وقوانينها، وكثيرة هي البلدان التي تعاني من العصبيات العرقية أو الدينية، أيّ الطائفية، في ظلّ نظام علماني عريق ومتجذّر.
العملنة تعالج النظام السياسي الطائفي كما تعالج النظام السياسي الديني، لكنها لا تعالج الطائفية ولا تنال من التديّن، بل يمكن القول بثقة إنّ العلمنة أقرب إلى التديّن من الطائفية، لأنّ الطائفية عصبية والعصبية تتعارض مع كلّ دين، كما تتعارض مع كلّ تمدّن، وعندما ما يخوض أعداء الديانات معاركهم ضدّ الدين ويقومون بتصويرها كترجمة للعلمنة، إنما يقومون بإنشاء عصبية جديدة تعارض حرية المعتقد التي تقوم عليها العلمنة، بل هم يجعلون اللاتديّن، ديناً جديداً ينصبونه حاكماً بدلاً من الدين الذي قامت العلمنة لإبعادة من الحكم، وجعل الدولة محايدة في الصراع بين التديّن واللاتديّن، أو بين ايّ تديّن وتديّن آخر، باعتبار هذه هي وصفة العلمنة من ضمن حمايتها لحرية المعتقد، وهؤلاء الذين يجعلون العلمنة ديناً جديداً بدلاً من كونها فصلاً للدين عن الدولة يجعلون علمنتهم مصدراً للاستبداد بجعل الحكم المفترض أنه قائم على ثقافة الحرية التي تشكل جوهر العلمنة، مصدراً لممارسة سلطة طائفية ودينية لطائفتهم الجديدة ودينهم الجديد، وهذا خداع بصري ثالث.
الخداع البصري الرابع هو ظنّ البعض أنّ في لبنان نظام يحتاج للعلمنة، كأنه نظام ديني، ودستورنا واضح في تمسكه بحماية حرية المعتقد، وحيادية الدولة بين المعتقدات الدينية وغير الدينية، أما إزالة التوزيع الطائفي في المواقع السياسية والوظيفية، فهو رغم كونه مطلباً محقاً لاكتمال دولة المساواة في الحقوق والواجبات كما ورد هذا الهدف ووردت الدعوة للمساواة بين المواطنين بصورة صريحة في الدستور، لكن هذا الهدف النبيل مشروط بتوافر فرص تتيح نيل مقاصده، بعدم تحوّل إزالة هذا التوزيع الطائفي الذي يشكل مصدر اطمئنان راهن للجماعات الطائفية، من نقطة ضعف في النظام السياسي إلى مصدر خطر على الاطمئنان الوطني بفرض توزيع آخر بقوة موازين القوى العددية بين الطوائف، إذا بقيت الطائفية كحالة ثقافية تسيطر على العقول وطرق التفكير، فنقع على خداع بصري خامس محوره، تسلط طائفية وتسلقها عبر عنوان العلمانية كما تتسلط وتتسلق اللادينية من بين شقوق العلمانية.
العلمنة كوصفة شاملة لأمراض مجتمعاتنا تبدأ بالنجاح من خلال تحصينها بوجه محاولات تسلل اللادينية والطائفية من بين شقوقها وسوء الفهم الذي يحيط بها.
نتذكر في هذا الشأن المبشر الأول بالعلمانية في شرقنا المعلم بطرس البستاني، الذي كان من حراس حرية المعتقد، وكان متديّناً، وكان علمانياً، وكان يصف الطائفيين والمذهبيين بالخونة للأوطان.