زيارة يتيمة

كلود عبد المسيح

سافر مكرم مع أهله إلى أميركا في مطلع السبعينات، وكان لا يزال دون الخامسة عشرة من عمره، أي عند انطلاق أوّل شرارة للحرب اللبنانية المتعدّدة الطوائف والأحزاب والأسباب. وذلك لأن والده لم يرد لأولاده الانخراط في أي حزب من الأحزاب التي أفرزتها تلك الحرب الشنيعة شكلاً ومضموناً.

مكرم منذ ذلك الحين، بقي يأكل قلبه الحنين، متحيّناً الفرصة، منتظراً هدوء الظروف الأمنية في البلد والاقتصادية في الجيب، لزيارة لبنانه الحبيب.

توالت السنون فغدا الشاب كهلاً، ونجح في العديد من الأعمال التجاريّة، مكوّناً عائلة ناجحة مع زوجة من تلك الأصقاع البعيدة. في مطلع عام 2003 قرّر زيارة بلده لرؤية من تبقّى من أعمامه وأخواله والتعرّف إلى أولادهم وأحفادهم الذين ولدوا أثناء غيابه. لدى وصوله إلى أرض المطار قبّل التراب وبكى وتنشّق هواء بيروت مثلما تتنشّق الماء سمكة أعيدت إلى الماء قبيل الاختناق.

كان يحمل في قلبه العواطف والأشواق لأقاربه ما يكفي مئة جيل من الغربة والبعد والفراق. رغم ذلك لم يخبر أحداً منهم بقدومه، بل أراد مفاجأتهم بوصوله بغتة، ليرى كيف سيتعرّفون إليه بعد عمر مديد وتبدّل كبير. في باحة المطار تلقّفه سائق سيّارة أجرة دعكه الزمن، حين رآه يسرح بنظره في كل صوب بلا هدف أو رفيق، مع حمله الخفيف الذي لا يتعدّى حقيبة الظهر على الطريقة الأميركيّة.

سأله: لوين خواجا؟ فأجاب بلكنة غريبة ظاهرة: بدّي روح عَ بسكنتا «بليز».

وقال السائق إذ وجده متأمركاً: تكرم عينك، بس عَ بسكنتا أجرة التاكسي 100 دولار. المكان بعيد.

ردّ مكرم بسرور: «وإنت كمان تكرم عينك».

خلال الطريق الذي اختاره السائق طويلاً لم يكن مكرم كثير الكلام فلم يفشّ خلق الرجل الفضولي الثرثار، بل راح يتأمّل الطبيعة وينظر حوله بشغف محدثاً نفسه: يا ربّي كم تغيّرت الدنيا في لبنان وكم كثر البنيان واختفت الغابات! أين أشجار الصنوبر؟ أين كلّ تلك الوهاد حيث كنا نحوّش الزعتر ونصطاد؟ ترجّل في ساحة بسكنتا مبتسماً وراح يسلّم على المارّة في الطريق ويقبّل العجائز والأطفال ويسألهم عن أقاربه حتى اهتدى إلى بيت واحد منهم. بعد السلام الذي كان عاديّاً من ناحيتهم، راح يسألهم عمّن بقي حيّاً من معاصريه فأخبروه أن كل من يسأل عنه من العجائز مات. أما الآخرون فتفرّقوا بين العاصمة ومدن أخرى، أو في دول عربيّة مجاورة بداعي العمل. أما الأطفال من أولاد أعمامه فمدّوا أياديهم إليه يستعطفونه بحفنة من الدولارات الطازجة.

لم يلق مكرم من الترحيب والحنان ما كان يتوقّعه في أحضان أقاربه البعيدين، فقرر أن يفيد من رحلته جغرافياً. في اليوم التالي سأل قريبه مرافقته لزيارة المناطق السياحيّة، فأجابه الأخير قائلاً:

أذهب معك وأمري للخالق، لكن بصفتي سائقاً وسيارتي سيارة أجرة، سأضطرّ إلى قفل دكاني لأجلك وسينقطع رزقي ورزق عيالي. طبعاً لم يرفض مكرم هذا الاقتراح، فأوكل الرجل زوجته بالدكّان مثلما يفعل دائماً، وراح يجوب مع ضيفه المناطق اللبنانيّة واحدة تلو الأخرى، بينما يسجّل على دفتر صغير المسافات وعدد المشاوير بالعملة الصعبة.

في اليوم الأول زارا طرابلس، وبعد جولة قصيرة دخلا مطعماً، أثناء تناول الفطور، مرّت بقرب طاولتهما امرأة كفيفة تبيع الشموع، يقودها طفل ليرشدها الطريق. رقّ قلب مكرم لحالتها وأعطاها حفنة لا بأس بها من المال. ثم نهض ليدفع حساب المطعم، فاستقبله الرجل ببشاشة قائلاً: هذا صندوق زكاة للأيتام، فهل تصدّقت عليهم أيّها المغترب الكريم؟ فدسّ مكرم يده في فوهة الصندوق ووضع فيه مبلغاً غير بسيط.

وصل ظهراً إلى منطقة زغرتا، وبعد التفرّج على معالمها الرائعة والتمتّع بطبيعتها الخلاّبة، حاولا ركن السيّارة أمام أحد المطاعم العريقة. قبل أن يترجّلا اقترب منهما حارس موقف السيّارات مرحّباً، وفور سماع لكنته الأميركيّة ضرب التسعيرة بخمسة أضعاف. اختار مكرم طاولة في ركن هادئ وناوله النادل قائمة الطعام الطويلة فقال له: لا أريد القائمة، بل اختر أنت لنا ما تراه مناسباً. سرّ النادل وراح يغدق عليهما ما لذّ وطاب، وما ارتفع ثمنه من الطعام والشراب.

بعد قليل مرّ بهما بائع الورود الذي ولد خصّيصاً لهذه الوظيفة السمجة. وكان النادل لفته إلى ثراء الضيف العزيز فالتصق الولد بمائدته وما برح يتملّقه حتى استلّ من جيبه، بوردة واحدة، ثم أقفاص من الورود. وبينما هما يأكلان اقترب منهما نادل آخر يحمل صينيّة من القشّ عليها رغيفان ساخنان من الصاج قائلاً: هذان من أم عاطف وتستعطفك بأن تتكرّم عليها بما تراه مناسباً يا سيّد مكرم، فوضع على الصّينية ما كان يحويه جيبه الأيمن. وبينما كانا يستعدان لبلوغ السيّارة، قدمت سيّدة تحمل سلّة من البيض، وقدراً من القريش الطازج، وطفقت تتملّقه وتستحلفه بأولاده أن يشتري منها. وقبل أن يرفض تلقّفها قريبه قائلاً: هاتي ما عندك يا امرأة، فأولادي يحبّون هذه الأطعمة بشدّة. وأفرغ مكرم جيبه الأيسر. بعد ذلك، ذهبا لزيارة غابة الأرز، وبينما المغترب يتأمّل الأيقونات الخشبيّة المبدعة، قال له البائع: ألن تشتري الهدايا لعائلتك وجيرانك والزملاء؟ عيب يا رجل، ساعد أولاد بلدك المساكين البؤساء. فشعر مكرم بالحرج وأفرغ جيبه الخلفي كرمى لأبناء بلده. ثم تقدّمت منه سيدة تحمل صندوقاً وقالت: يا سيّدي الكريم هذا صندوق تبرّع لترميم غابة الأرز المتضررة ومعالجة ما تلف منها ونخره السوس، وكلّ اتكالنا عليكم أنتم المغتربون، حماكم الله لنا. خجل الرجل من طلبها الملحّ وأفرغ ما تبقّى في جيوبه راضياً…

عندما وصلا مساء إلى البلدة، أعلمته زوجته بأن بعض الأقارب سيقيمون غداً حفلة عشاء على شرف المغترب الكريم. فرح كرم كثيراً بهذا التكريم، وخلال الحفلة قامت المضيفة بالترحيب والتبجيل والتمجيد حتى وصلت إلى بيت القصيد، وهو أن السيّد مكرم الكريم والمكرّم، سوف يتبرّع بمبلغ كبرة لبناء صرح رياضيّ ضروريّ لبني بلدته الأحباء. فحرّر الرجل شيكاً بمبلغ لا يستهان به لفرط ما شعر بمحبة وتضامن مع بني بلدته العزيزة.

صباحاً مضى به قريبه لزيارة سيّدة حريصا. وبعد الغداء في مطعم متواضع، وعده بالنزول نحو منطقة محاذية لصروح القداسة والعبادة والصلاة، حيث معظم الأماكن يملكها الأشخاص ذاتهم فيتفنّنون بالترفيه عن الزوّار في كل صعيد وبأساليب شتى، في كلا المكانين…

وعده بسهرة فاخرة «تسوى الدنيا والآخرة». فأخذه إلى مربع للطرب والسهر والسمر. وتكرّرت هجمات عامل موقف السيّارات وبائعي الورود من جديد. خلال السهرة راح المطرب يبجّل المغترب الكريم ويمدحه ويذكر إسمه مرحّباً، فلكزه قريبه بأن يتكرّم عليه ويراعي شعوره ففعل مستغرباً.

ثم هجم الجميع إلى حلبة الرقص واختلط الحابل بالنابل، وعندما أطلق المطرب أغنية وطنيّة النقسم الجمهور بسحر ساحر قسم يؤيد هذا الحزب وقسم يفضل ذاك، واستعرت النيران في النفوس، وتمنى الجميع لو كانت بحوزتهم فؤوس. لكنهم اكتفوا بالركل والنطح وشدّ الشعر. ونال مكرم نصيبه من قبضة قويّة على رأسه أفقدته وعيه لبعض الوقت، فأسعفوه، متأسّفين لحسن الضيافة.

خلال تلك الفوضى انتحى قريبه بقارئة الطالع المطّلعة، وطلب إليها أن تقرأ الكفّ لقريبه، وزوّدها الكثير من التفاصيل لكي تنتشل منه مبلغاً كبيراً يقتسمانه لاحقاً. وضعت المرأة يدها فوق رأسها قائلة «بتأمر سيدي، على راسي» ثم اقتربت من مكرم قائلة: مذ رأيتك وأنا أشعر بقوّة تدفعني إلى قراءة كفّك.

انزعج الرجل من تلميحها محاولاً التملّص منها، لكنها لم تترك له الفرصة قائلة: «أنت قادم من خارج الحدود، ولك أقارب في أعلى الجرود، ومنذ فترة وقعت في أيدي الجنود». دهش مكرم وفتح أذنيه لسماع المزيد، ولم تبخل عليه بالبصّارة بما يسرّ الخاطر ويفرح القلب ويدغدغ الأمل، فأجزل لها العطاء مضاعفاً. ثم اختفت مثل البرق ولم ينل منها قريبه قرشاً واحداً.

قبل انتهاء السهرة جاء دور الراقصة اللولبيّة «سميّة». التصقت بطاولة مكرم معظم وصلتها، وراحت تقبّل صلعته وتحفّ صدرها بها حتى علق به معظم عطرها. عندئذٍ همس له النادل بأنّ عليه أن «يفتح لها» فأجابه مندهشاً: ماذا تريدني أن أفتح لها؟ أجابه النادل ضاحكاً «الشمبانيا يا خواجا».

بعد السهرة العامرة، اتجها إلى الفندق القريب للراحة. وفيما كان يفتح باب غرفته التقى الراقصة نفسها. دعته إلى السمر قليلاً وشرب كأس معها في غرفتها المجاورة. وبعد الأخذ والردّ غفا في حضنها، عندما صحا ظهراً لم يجد أثراً للمبلغ الكبير الذي سحبه من المصرف آنفاً، ولا لساعته الذهبيّة.

حزن مكرم كثيراً لما حصل له، لكنه لم ينس الأوقات الممتعة التي عاشها. وفي طريقه إلى بسكنتا عرّج على المصرف وسحب آخر ما تبقى له من المبلغ الذي خصّصه لهذه الرحلة.

مساء تحلقت حوله عائلة قريبه لوداعه، فموعد سفره اقترب. راحوا يعلّمونه كيف يدخن النارجيلة فسحرت لبّه واستحوذت عليه حتى قال لهم: تستطيعون النوم، أما أنا فأريد أن ألهو بهذه قليلاً ريثما أنعس. نام الجميع وشعر مكرم بالضجر. هاجمه النعاس فرمى الجمر إلى الأسفل ودخل للنوم. لم يكن يعلم أنه رمى الجمر على سقف الدكّان البلاستيكي. ومع حلول الصباح غدا معظم الدكان رماداً فأجبره قريبه على تعويضه تلك الخسارة الفادحة أضعافاً. وعندما أراد محاسبته على إيصاله بسيّارته فتح دفتره وشرع يعدّ ويحصي كل شاردة وواردة حتى بلغ الحساب مبلغاً خياليّاً. ولم يكفه ما بقي في حوزة ضيفه من الدولارات فاستولى على خاتمه الماسيّ ونظّاراته الشمسية. ولولا الحياء، لأخذ ثيابه والحذاء.

عاد مكرم أدراجه مكسور القلب، حزيناً، مفلساً، محبطاً، إذ لم يعثر على ما جاء لأجله، أو من جاء لرؤيتهم، بل لم يجد لمحبتهم أثراً. ولدى وصوله إلى أرض المطار في لوس أنجلس، قبّل التراب مراراً، وأقسم بأنه مهما جرى لن يعيد الكرّة، وكانت آخر مرّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى