ديوان «آخر امرأة في بلاط شهريار»… انفتاحات على فضاءات متضاعفة الإيماءات
د. طوني كرم مطر
ديوان «آخر امرأة» جديد الشاعرة لورين القادري بعد ديوانيها «أنثى أنا» إصدار «دار الفارابي» عام 2016 و»أرجعتني طفلة» إصدار «دار غوايات» عام 2017. يحتوي الديوان هذا على اثنتين وعشرين قصيدة باللغة الفصحى.
الشاعرة ترسم بريشة الفن المعجزة صورها الشعرية، وكأني بها وهي تخلق قصيدتها تضطرب كالبحر الذي تعشقه فترى كلماتها عميقة عمقه هادئة هدوءه مترامية أطرافها لا يحدّها حدّ، وتضع في كل ثانية كمًّا من الإبداع في اختلاطات العاطفة الداخلية في عالم مغاير للعالم الذي يعرفه الناس، فتحتلّ لها بذلك مكاناً لائقاً بين الشعراء.
الشاعرة لورين في كتابها الثالث أثبتت أنها من أهل الفكر المتألّقين، وهي الأستاذة في التعليم الأكاديمي، فمن خلال خبرتها الطويلة اكتسبت حسًّا نقديًّا مهماً، ومخزوناً من المفردات التي تتقلب بين قصائدها مشكّلة قاموساً خاصاً بها. وها هي تقول في «وأريدُ عينَك كي أرى عيني به»:
«وأريدُ كفَّكَ أنْ تكونَ ليَ الرّئة
وأريدُ قلبًا كالسّماءِ عباءةً
فضفاضةً ونجومُها متلألئة
وأريدُ شعرًا منْ رضابِ محابري
يجتاحُ أفئدةَ السّماواتِ المئة
وأريدُ حبًّا كالطّفولةِ نابعًا
منْ صدرِ مشتاقٍ أبى أنْ يُطفئَه».
الكتاب حالة شعرية كاملة موزعة على اثنتين وعشرين قصيدة. فالقارئ يتجوّل بين روعة الصور الناجمة من تآلف العناصر التي يتكون منها الشعر، ولفهم قصائدها يجب أن يذهب إلى الاجتهاد الشعري الذي يسعى إلى الكشف عن النص الأصلي في مخيلة لورين فكل كلمة ظاهرة تخفي في أعماق الشاعرة كلمات وكلمات.
«مُدني محاصرةٌ وكلّ جنودِها
أسرى لديك وقيصرٌ لكَ صاغرُ
كيفَ الخروجُ من المهالك دُلّني
وتغلّقت توًّا هناك معابرُ
نكتَ الرّمادَ وقالَ أهلًا بالهوى
نفضَ الرّمادَ وثمَّ رفرفَ طائرُ
يا جذوتي الحمقاءَ كوني صرخةً
زأرتْ فصوتُكِ كالعواصفِ هادرُ».
فحكاية لورين كحكاية الشاعر الفرنسي شارل بودلير مع الأصوات والألوان، حيث تتلاقى وتمتزج فتتغير معانيها كامتزاج اللؤلؤ بالماء فيتحول الماء كله إلى لآلئ.
«أنت مثلي
ظامئٌ للماءِ
لكن
ماؤنا ملحٌ أجاجْ
فلماذا نتلطى
خلف جدرانٍ زجاجْ
ولماذا يا صديقي
نفتح البابَ لأرياحٍ عتيّهْ».
قصائد لورين ينطبق عليها ما قالته ناتالي ساروت: «إن السيل الذي يشعر به الشاعر ويعبّر عنه كأنه يحصل معه لأول مرة، وأنا في قراءتي قصائدها كنت ألمس جديداً كلما قرأت القصيدة للمرة الثانية والثالثة وأجد إبداعاً لم ألحظه من قبل وأبدأ بلملمة الصور الشعرية ما استطعت وكأني ألملم خصلاً من نور الشمس وفتيتاً من ضوء القمر.
«أودعتَه الجبَّ الرهيبَ
خدينُه
ليلٌ وعبدٌ
قُيّدا بسلاسلِ
ظلمًا رميتَ
أهلْتَ فوقَ سمائه
من تربةِ الصّمتِ الظلومِ القاتلِ
ثمّ انثنيتَ
بكيتَ فوقَ قميصِه
بليَ القميصُ
وأنتَ لستَ بسائلِ».
ما لاحظتُه في معظم قصائدها الأخيرة الجمالية الشعرية المتوهجة بأشعة لا نهائية فتشكل انفتاحات للقصيدة على فضاءات متضاعفة الإيماءات والدلالات.
«هي شهقةٌ للريحِ قد تصلُ السما
شمعٌ يضيءُ مفاصلًا ويذوبُ
هي لحظةٌ للموتِ تعقبها الحياة
لها منَ النيران ثمَّ شبوبُ
هي رقصةُ الأنثى تبثُّ عطورها
والرقصُ طابَ الرقصُ حيثُ حبيبُ».
أما اللغة الشعرية فهي تجاذب عبر تقاطب لغتها بين ذاكرتها والحقول الدلالية لهذه الذاكرة المترجمة لصور الشاعرة الممتلكة لها في عمق جذورها حين انفتاحها على ذاكرة أخرى تنسج أحلامها وتطوف وتطوف بها حول الحلم لتلمع وتنتشي برحابة وجوده في لحظة شاعرية.
«ودمعُ الفراقِ
هطولٌ هتونٌ
أينضبُ نبعٌ؟ محالٌ محالْ
فخذْ ماءَ عيني
توضأ وصلِّ
لعلَّ الصلاة تطيحُ الخيالْ
ودعني أطوّفُ بين الفراديسِ
بين الحدائقِ يشفَ اعتلالْ».
في لحظات تجلّي الروح يتبخر الجسد اللحمي في قصائد لورين ويخرج من طينه الآدمي ليستحيل الحب أسيرًا متساميًا إلى أرواح المحبين، حيث ترتقي الشاعرة مع أثير السماء والحبيب معشوق سماوي أبدي.
«أنا ما اشتهيتُك خاتمًا
في إصبعي
بل لؤلؤًا حرًّا بصدر قلادتي
لتوشوشَ الجيدَ الذي
يشهى اللقاءْ
أنا ما انتقيتك بلبلًا
غنّى نشيدَ الليلِ
لا
بلْ ليلةً سترَتْ بشعرِ جدائلِ الدّيجورِ وجهَ الأنبياءْ».
شعر لورين غوص في السحر وغوص في الأنفاس الحساسة حيث ترتقي بشعرها فوق مساحة العقل لتكون القصيدة اللورينية.
ينطلق الشعر في مجموعتها حرًّا طليقاً كعصافير الغرام ليستقر عند كل الاحتمالات. وهو وإن اعتمد نظام الشطرين والوزن والتفعيلة حديث بمضمونه حديث بمواضيعه حديث في جرأته، وتغيير في نظام الكون وتمرد على الأشكال والمناهج الشعرية القديمة ورفضاً لمواقعه وأساليبه.
«يقولُ بخيلٌ
ولستُ بخيلًا
ولكنْ حريصٌ على ذي الخلالْ
ويقطفُ من سنبلاتي غلالًا
ويُنكر أنّي معينُ الغلالْ
ويشربُ صفوًا
ويغفو قريرًا
ويسرق من صحنيَ البرتقالْ
فإمّا يغيبُ
وإمّا يجيءُ
أراقَ دمائي ودمعي أسالْ».
تتبرعم القصيدة اللورينية لتصبح ثماراً يانعة في غابة ملونة، تعانق الثلج والمطر، وتتراقص مع البنفسج فهي تعتمد اللغة الفصحى وتخرج أحياناً عن منطق اللغة العادية المباشرة، حيث تلجأ إلى الانزياح فتلبس معاني المفردات معانيَ أخرى.
«إني نذرْتُ الصّومَ عنْ حبي لهُ
خمسينَ عامًا في ذرا الأكوانِ
وأهلْتُ فوقَ القلبِ ألفَ قصيدةٍ
نبتَتْ على ظمأ بلا بستانِ
أغلقْتُ أبوابي بوجهِ رياحِه
أتراوَدُ الأرياحُ كالنّسوانِ؟».
تأخذنا القصيدة اللورينية إلى مطارح لم تكن تفكّر بها تحملنا على تردادها وتحملنا صورها الشعرية من المعنى الاعتيادي إلى التوهّج في الذاكرة، حيث تدفعنا كلماتها باتجاه إعمال العقل والمخيلة في آن واحد.
«أنا يا حبيبْ
أنا ما طلبْتُ البحرَ منكَ ولا سماءْ
إني اكتفيتُ
بأنْ ألملمَ منْ ذيولِ غيومِكم حبّاتِ ماءْ
فدعِ الغيابَ
وما تبقى في كؤوسِ العمرِ قطرةُ كبرياءْ».
لورين تملأ الفراغ بالشعر وتحاول إصلاح الكون فشعرها كالفلسفة محاولة للإجابة عن أسئلة لا إجابات لها وقصيدتها سفينة أحلامها التي تحاول اصطياد القمر واحتضان البحر وعناق المطلق وكلما كتبت قصيدة جديدة ترتعش أعماقها طرباً للولادة.
في جلّ قصائدها ترتقي الشاعرة ـ أو تكاد ـ إلى دنيا الكمال ومسابح الضوء وتشعل البخور ليصل إلى سديم السماء فتحوّل الصمت كلاماً وتتماهى مع النور.
كلية التربية ـ الجامعة اللبنانية