الاستقلال خلق معنا وحميناه بجهدنا ودمائنا واستمر شامخاً تصونه وحدتنا وجيشنا
إياد موصللي
الاستقلال في لبنان تحقق بالإرادة الحازمة والقوة الحاسمة.. الاستقلال لم يمنح لأنّ الاستقلال يبنى ويتحقق بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة. واستقلال لا يحسب بعدد السنين لأنه ولد معنا وفينا.
في لبنان طردنا الأجنبي المحتل وحافظنا على استقلالنا بعد أن سقينا الأرض بدمائنا ووقفات العز التي وقفها أبطالنا والقوة التي فينا والتي فعلت فغيّرت مسار تاريخ صنعه الانتداب الفرنسي. طريق رسمناها لنسير عليها كتبنا تاريخنا صفحات وهاجة مشرقة مشرّفة عنوانها نحن من أمة أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة..
قدّمنا الجهد وسخاء العطاء بالدماء والشهادة فكان منا الشهيد الأول في الحفاظ على الاستقلال. إنّ شهداءنا يمثلون انتصاراتنا الكبرى.
انتصار معنى الحياة على مجرد الوجود أنّ الاستقلال الذي خلق فينا ومعنا هو عنوان الإرادة والحرية والعنفوان. لم يتحقق الاستقلال بالخطابات والتمنيات بل بالإرادة المؤمنة والسخاء في العطاء بالجهد والدماء الذي كان عنوان وجودنا. هذا الوجود الذي حميناه بالفكر والروح والجسد وكلما تراكمت علينا الصعاب تجدّدت قوانا وسحقت ما اعترضنا من صعاب.
قدمنا الشهيد الوحيد في معركة طرد المحتلّ والحفاظ على استقلالنا هو الرفيق سعيد فخر الدين الذي ارتقى في بشامون أثناء مجابهة الجيش الفرنسي ثم دحره.
ارتقى شهيدنا في 17 تشرين الثاني من العام 1943 على مفرق بشامون. وهو الشهيد الوحيد في معركة الحفاظ على الاستقلال.
حاول الفرنسيون احتلال مقر الحكومة في بشامون بعد أن اعتقلت سلطات الاستعمار رئيس الجمهورية وبعض الوزراء وعدد من المسؤولين ونقلتهم إلى قلعة راشيا الوادي. وتمركز عدد من أبناء المنطقة للدفاع عن حكومة بشامون كما سُميت. وكان بين هؤلاء عدد من القوميين يتقدمون الصفوف منهم: الرفيق أديب البعيني وسعيد فخر الدين وعادل قائدبيه. وأثناء التحضير للمجابهة اندفع أحد المجاهدين سعيد فخر الدين وتأهب ليلقي قنبلة يدوية على إحدى الدبابات، فتعرض بعمله هذا لرصاص المتراليوز الذي كان وراء السنسال فأصيب من العدو وارتقى شهيداً والقنبلة في يده. ومن شدّة المقاومة تمكن العدو من الهرب تحت حماية الرصاص الذي كان يضرب من أول عين عنوب إلى أن كشفه رجالنا الأبطال وقتلوا ثلاثة من رجاله.
وجاء في كتاب «ولادة الاستقلال» لمنير تقي الدين مدير عام وزارة الدفاع ما يلي: «فلما اعترضت الصخور طريق المصفحة الأولى ترجل منها جنديان راحا يحاولان رفع الحجارة من الطريق بينما أخذت المصفحة تطلق النار ذات اليمين وذات اليسار لتحمي نزول الجنديين فقابلها المقاومون بالمثل فصرع الجنديان حالاً وأخذ الرصاص يتساقط على المصفحة المتقدمة والمصفحتين المتأخرتين فلا يعمل فيها شيئاً. عند ذلك خرج من وراء المتاريس شاب قفز إلى الطريق وقذف المصفحة بقنبلة يدوية فانهال عليه رشاش من الرصاص مزقه تمزيقاً. إنه سعيد فخر الدين من عين عنوب، وقد رأيته بأم العين يخاطر بنفسه ويقوم بأعمال يعجز اللسان عن وصفها رحمه الله».
أما الرفيق عادل قائدبيه فروى ما جرى حيث قال: «في الواقع إن الشهيد سعيد كان منبطحاً وراء تلة الزيتونة، كان شجاعاً. وعندما وقف ليقذف القنبلة اليدوية المجهزة نحو المصفحة ونظره موجه إلى الساحة في الاتجاه الغربي، عاجله ضابط فرنسي برشق من رشاشه أصابه على طول ظهره. وسقط يسقي بدمه تلك الزيتونة الخالدة لمدة ساعة وأكثر.
بعد انسحاب المصفحات هرع رفاقه ولفوه بلحاف ثم حملوه على باب خشبي عتيق واتجهوا به نزولاً في هذا الدرج المجاور للسنديانة. إلا أنه كان قد نزف كثيراً، فلفظ أنفاسه وهو في الطريق قرب الشويفات فعادوا به ودفنوه في مأتم متواضع جداً. إنّ ذلك المشهد المهيب لا يمكن أن أنساه أبداً».
وإنه لمن المؤسف والمحزن أنّ السلطة اللبنانية، بحكوماتها المتعاقبة آنذاك، قد تعمّدت تجاهل ذكرى استشهاد البطل الوحيد سعيد فخر الدين. فلم تقم له نصباً ولم تجر له احتفالاً في حين أسبغت على رموز الطبقة الحاكمة أدواراً وبالغت في تكريمهم وتخليدهم وتناست ابن الشعب الذي جاد بدمه في سبيل أن يحفظ الاستقلال.
بعد الانتهاء من المعركة صدر عن الحكومة بلاغ رقم 1- :
هاجمت قوات فرنسية مسلحة مركز الحكومة الشرعية في بشامون مساء الإثنين في 15 تشرين الثاني 1943 فردّتها وحدات الحرس الوطني من دون خسائر في النفوس. وفي صباح اليوم الثاني شنت القوات المصفحة الفرنسية هجوماً عنيفاً على المركز المذكور فردّت على أعقابها أربع مرات متوالية حتى الساعة الثالثة بعد الظهر وسقط بعض القتلى والجرحى من الجنود السنغاليين وفقدنا شهيداً واحداً يدعى سعيد فخر الدين من عين عنوب.
وجرت مناقشات في مجلس النواب وكثر المدّعون للبطولة والعنجهيات في عام 1969 في ذكرى الواقعة فوقف كمال جنبلاط وقال:
«لم التجحج لقد سقط شهيد واحد في معركة استقلال لبنان عام 1943 اسمه سعيد فخر الدين وهو سوري قومي اجتماعي.
وبعد ثلاث سنوات صدر المرسوم الجمهوري رقم 9377 بمنح ميدالية الجهاد الوطني وهذا نصه:
مرسوم رقم 9377 بمنح مدالية الجهاد الوطني
إن رئيس الجمهورية اللبنانية
بناء على الدستور اللبناني
ولما كان المرحوم سعيد فخر الدين من أهالي بشامون قد ضحى بحياته في سبيل لبنان في حوادث عين عنوب من 11 22 تشرين الثاني 1943.
وبناء على قرار مجلس الوزراء المتخذ في 20 تشرين الثاني سنة 1945.
يرسم ما يلي:
المادة الأولى: منح المرحوم سعيد فخر الدين ميدالية الجهاد الوطني تخليداً لذكراه بعد الوفاة.
المادة الثانية: ينشر هذا المرسوم حيث تدعو الحاجة.
بيروت في 2 تموز 1946.
وارتقى شهيداً أيضاً الرفيق حسين موسى عبد الساتر.
كان الشهيد جندياً في سلك الدرك اللبناني ومن فصيل الحماية للمجلس النيابي. في هذا الوقت والصدام شديد بين الشعب وقوات الاحتلال الفرنسي، تقدم عدد من النواب وأنزلوا العلم الفرنسي عن سارية المجلس ورفعوا بدلاً عنه العلم اللبناني الجديد وهو نفس العلم الحالي للجمهورية اللبنانية.
حاول بعض الممالئين للاحتلال وبمؤازرة الجنود الفرنسيين إنزال العلم اللبناني ورفع العلم الفرنسي مجدّداً فتصدى لهم الرفيق الدركي حسين عبد الساتر وتصادم معهم وهو يمنعهم من تنفيذ رغبتهم فارتقى شهيداً.
إن شهداءنا يمثلون انتصاراتنا الكبرى والاستقلال ليس مرحلة زمنية معينة نحتفل بها وننتهي.
الاستقلال هو الرمز الذي تبنى عليه هوية الأمة والسيف الذي يحمي رايتها ويحمله جيش مقتدر مؤمن بأنّ الدماء التي تجري في عروقه هي وديعة الأمة متى طلبتها وجدتها وجيشنا الوطني كان دائماً هو السيف والترس ونشأت أجيالنا وهي تنشد:
بيّي راح مع العسكر حارب وانتصر وكتّر..
فجيشنا هو الراية والحكاية الممتدة من تاريخنا الطويل.
تحية لك يا جيشنا وأنت تسقي الأرض بدمك.
أنت المؤمن بأنّ الدماء التي تجري في عروقنا هي وديعة شعبنا ووطننا عندنا متى طلبها وجدها.
لم تهيئك قيادتك ولم ينذرك شعبك من أجل جولة مجابهة متاريس الغدر والخيانة بل من أجل معركة تساوي وجودنا وحقيقة تسجلها وتفرضها في وقفة عز تصنعها لأنك ابن مدرسة الحياة مصنع الرجولة مؤسسة الجيش التي أعطت لهذا الوطن قدوة قل نظيرها أثبتت لنا عبركم أن فينا قوة لو فعلت لغيرت تاريخ المآسي والحقد والتفرقة وصانت الكرامة.
أحببت الأرض التي تمشي عليها وهي تهتز تحت وطأة خطواتك الواثقة تشرئب روحك وينتصب جسدك فأنت نسيج الآلهة. وهبت الروح والذات سهرت الليالي ويدك على الزناد ليهنأ أطفالنا ولنطمئن في الرقاد.
أصلي لك: ابتهل كلما وضعت رأسي على الوسادة وأنشد:
أيها الجندي يا كبش الفدى بإشعاع الأمل المبتسم
ما عرفت البخل بالروح إذا طلبتها غصص المجد الظمى
بورك الجرح الذي تحمله شرفاً تحت ظلال العلم
سر في دربك فأنت لا تعرف سواه درباً الصبر والثبات الشجاعة في الهجوم كما خلف المتراس شجاعة المقاتل وشجاعة المواطن المتخلق بالعفة والنخوة والنجدة وعشق الأرض والعطاء من أجلها سلماً وحرباً. المنتصر على أهواء النفس ومذلة الولاء للساسة والزعماء، المترفع على مغريات العيش المؤمن أن مغانم الحياة هي التضحية حتى الشهادة وسحق الأنانية وحب الذات.
كم أنت عظيم يهتف باسمك أطفالنا وتهفو نحوك قلوبنا وتدمع العين بابتسامة الفرح لرؤياك.. نصلي لك بترانيم الحب:
رب حققت أمانينا جمالاً وجلالاً
ونثرت الخير فيهم يميناً وشمالاً
وتجليت عليهم صليباً وهلالاً
فأحفظهم ربي للوطن رجالاً
خلق معنا وفينا الاستقلال فكنت سياجه وحمايته وصيانته.
لقد غيرت الكثير من الصور وبدّدت الكثير من رواسب النفوس، رسمت أمامنا أفقاً جديداً لمستقبل نبتسم له وهو يلقانا بإشراقة فجره، صنعت ملحمة ليس وأنت تقابل عصابة بل بتقديم دمائك لحماية طفل وامرأة وشيخ. كان بإمكانك الهدم والتدمير والسحق والقتل للقضاء على حفنة مجرمة ولكنك كنت جندياً إنساناً تحمي شرفك ومواطنيك بحماك ولو دفعت الثمن غالياً.
ما أعظمك يا جندياً من بلادي ستكون مثلاً ومدرسة وكتاباً، ستكون غرسة باسقة لجيل جديد.
ما تصنعه اليوم هو من خصال العظماء لأنه صبر على جراح وكظم لغيظ وعفو عند مقدرة، أخلاق تعلمتها في مدرسة الرجولة مدرسة الجيش.
لقد انتصرت على النفس فسيطرت على الزناد ولم تطلق إلا حيث هدفك واضح لئلا يسقط ضحايا وأبرياء وسقطت أنت بطلاً نشأنا ونشأت وسينشأ أولادنا على حبه وتقديسه.
هكذا كان في كل ميدان لجيشنا وجود عبر الحاضر والماضي وجود فرضه بعطائه وتضحياته على الحدود كما في المدن وحيث يتطلب الأمن:
وكنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
فحميت الحدود ووقفت في وجه عدو عات وتركت صدى وعنفواناً في نفوس مواطنيك وشعروا بجانبك بالدفء والطمأنينة ولسان كل فرد في جيش بلادي يردد:
وتهاديت كأني سأحب مئذري فوق جباه الأنجم
ستبقى أنت أنشودتنا وأملنا وحلم الغد لمستقبل واعد لا طائفية تفرق ولا مذهبية تزلزل وحدتنا ولا إقطاعية سياسية أو مالية تدمر مستقبلنا وعزتنا و كرامتنا. سنصنع وحدتنا كما صنعت منكم هذه المؤسسة الشامخة وحدة صامدة مؤمنة واعية سترسمون خطى أولادنا ولن يكون هنالك وطن يوجد فيه من يقول:
ما ذنب فتية إذا شبت ولم تلمح بتربته خطى أحراره
تركه لها آباؤها الإرث الذي يبقى مطوقاً بلعنة عاره
أنتم الذين ستورثون أجيالنا ما يباهون ويفاخرون به وأنتم ستحفظون الوطن وتصونون وحدته وسيادته واستقلاله وتبقى دماؤكم هي أزكى شهادة في الحياة.
نحن أبناء الحياة نحن قوم لا نلين للبغاة الطامعين أرضنا فيها معين للأباة الميامين.