من «الانشغال» إلى «المشاغلة»… إيران وفنّ إدارة ملفها النووي

خالد العبّود

أمين سرّ مجلس الشعب السوري

نعتقد أنّ ما يجري في المنطقة ليس مفصولاً عن بعضه بعضاً، إذ أنّ هناك عناوين رئيسية هي التي تؤثر أولاً وأخيراً على جملة الحراك الذي أعطى المنطقة سمتها الأخيرة خلال الأعوام القليلة الماضية، كون المواجهة في جوهرها لم تكن قائمة على ما كان ظُهّر خلال المواجهة ذاتها، حيث بقيت هناك أهداف عدة وراء المعلن عنه، خاصة لجهة عناوين تعلقت بمشهد ما سميّ بالـ «الربيع العربي»!!..

ونعتقد أكثر أنّ المواجهة انتقلت في فصول رئيسية منها، من حالتها الباردة إلى حالة ساخنة، عُبّر عنها بهذا الحراك السياسي والعسكري والأمني، على مستوى كامل المنطقة، كون المواجهة لا يمكن لها أن تُحسم من دون تجاوز رئيسيات هامة على مستوى عناوين تتعلق بقدرة الأطراف على فرض إرادتها على ملفات رئيسية لا يمكن لبرودتها أن تستمر، فالبعض يقرأ المشهد كذلك، ويضيف عليه أنّ التوافقات القائمة واللحظة الباردة التي سبقت مرحلة ما سمي بالـ «ربيع العربي» لا يمكن لها أن تستمر، ولا يمكن لها أن تحسم رئيسيات المواجهة الباردة، بل على العكس تماماً، فإن قوى دولية وإقليمية ترى في الإبقاء على الحالة أو المرحلة الباردة إمكانية نمو للقوى التي تمثل تطلعات وطنية بعيداً عن حسابات لمشاريع داخلة أو ناهبة للمنطقة.

لقد كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تنظر إلى المنطقة على أنها إذا ما بقيت على ما هي عليه، فإنها ذاهبة باتجاه الخسارة المحتومة للولايات المتحدة في نهاية المطاف، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق، حيث اعتبرت الإدارة الأميركية في لحظتها أنّ دخولها إلى المنطقة بالجسد الأميركي ذاته سيدفع هذه القوى الإقليمية، خصوصاً المكون الإقليمي الإيراني إلى الجزع والخوف، وإلى التراجع عن جملة عناوين لها علاقة بتفاصيل المواجهة أو حساباتها، وهي عناوين تتعلق بمصالح ما سميّ بـ«محور المقاومة»، غير أنّ الحسابات الأميركية لم تكن حسابات دقيقة، فقد واجه الإيراني وحلفاؤه الأميركي على أرض العراق، وأسقطوا له معادلته القائمة على إمكانية السيطرة بالجسد الذاتي، وأضحت هذه الاستراتيجية استراتيجية خائبة، حالت دون إمكانية تنفيذ الأهداف التي تطلعت لها الإدارة الأميركية.

في ظل هذا المشهد الذي كان يتقلب في طبيعة المواجهة وفي تفاصيل المعركة، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، ضغطت الإدارات الأميركية على إيران من أجل أن تشغلها بملفها النووي، والعمل على جعل هذا العنوان عنواناً في «الانشغال»، بمعنى أنّه كان مطلوباً أن تنشغل القيادة الإيرانية بملفها الهام، الملف الذي تعوّل عليه كثيراً، وهذا طبعاً وفق تقديرات الأميركي وحلفائه، هذا «الانشغال» سوف يدفع الإيراني إلى البحث عن تصريفات وتوافقات وتنازلات تضمن له إمكانية تهريب جزء من ملفه النووي، الأمر الذي سيدفع الأميركي إلى المقايضة على هذه الجزئية، في ظل مقايضات تتسع على أجزاء واسعة من المنطقة، وعلى مفاصل وتفاصيل طالما أثرت في الحضور الأميركي والمصالح الأميركية فيها.

لم تشأ الإدارة الأميركية بالتركيز على الملف النووي الإيراني كي تشغل القيادة الإيرانية به حتى استطاع الإيرانيون إيجاد مساحات جديدة من «المشاغلة» بدلاً من «الانشغال»، ونقل الإيرانيون ملفهم باتجاه إمكانية «المشاغلة به» وليس «المشاغلة عليه»، إذ أنّ القيادة الإيرانية أدركت جيداً أن هناك فرقاً هاماً وكبيراً جداً بين أن تتم «المشاغلة بالملف النووي» وبين أن تتم «المشاغلة على الملف النووي»، إذ أنها تدرك أكثر أنّ هذا الملف سوف يعطي لإيران أولاً وحلفاءها ثانياً دفعاً هائلاً باتجاه تأمين مصالح وخدمات جليلة لأبناء المنطقة.

لم تنتبه الإدارة الأميركية للقفزة التي حققتها القيادة الإيرانية في طبيعة إدارة الملف ذاته، لجهة ربطه بعناوين أو تخليصه من بعض العناوين، حيث وضعت القيادة الإيرانية استراتيجية استعمال لهذا الملف، حيث ظنّت هذه الإدارة أنها قادرة على التأثير سلباً للمقايضة على الملف الهام الذي يعني الإيرانيين كثيراً، هنا بالذات كانت القيادة الإيرانية قد جعلت من ملفها النووي فائض قوّة في مواجهة مقايضات لا يمكن أن تصرف «نووياً»، ومكّنت حلفاءها من امتلاك جملة وسائل جديدة، في أكثر من رأس هام وموقع مؤثر على الدفاع عن الذات، بدلاً من رميهم أو استعمالهم في مرحلة المواجهة على الملف ذاته، حيث أعطت هؤلاء الحلفاء إمكانية التأثير ووفرت لهم إمكانية القدرة على الفعل والمناورة، وعلى المبادرة في أحيان كثيرة.

لقد كان الهجوم الأميركي يعني أن تتخلى القيادة الإيرانية عن حزب الله في لبنان، وأن تتنازل عن اصطفافها الاستراتيجي مع سورية، وأن تتوقف عن دعم الحق الفلسطيني، وأن تسحب غطاءها السياسي والإنساني لجهة ثورة البحرين وثورة اليمن، وأن تخلّص القيادة الإيرانية نفسها من أي تواصل مع عُمان، وأن تنهي علاقاتها مع شعب العراق، وأن تتراجع عن تأثيرها على مساحات مواجهة واستعصاءات أخرى، مثل أفغانستان وتركيا وباقي دول الخليج…

هذا مشهد واسع ومعقّد كان مطلوباً من القيادة الإيرانية أن تتراجع عنه وأن تنكمش على ذاتها، في ظلّ إشغالها أميركياً بملفها النووي، غير أنّ واقع المعركة ومجرياتها على الأرض لم تدفع القيادة الإيرانية كي «تنشغل» في ملفها النووي بمقدار ما كانت «تشاغل به»، مع التركيز على رؤوس المواجهة التي أدركت أنّها أضحت متعبة جداً بالنسبة للإدارة الأميركية، وهي الرؤوس التي ذكرناها أعلاه، ففي ظلّ «المشاغلة بالنووي» كانت القيادة الإيرانية تركز على تقوية وقوة هذه الرؤوس!

الاستعصاء اللبناني لجهة جملة استحقاقات رئيسية واحدة من الرؤوس القوية، والصمود والانتصار الغزاوي ثانية هامة من الرؤوس القوية، والتنسيق بين أنصار الله وحزب المؤتمر واكتساح المشهد اليمني ثالثة مذهلة في قائمة الرؤوس القوية، والمشهد البحريني في ثورته ضد استبداد آل خليفة رابعة هامة جداً، والتقدم «العماني» للعب دور في محادثات النووي خطوة هامة في قدرة وكفاءة ومكانة رأس يعمل على خلخلة أو التعبير عن خلخلة مسّت «منظومة الجهل العربية»…

إذن… لقد نجحت القيادة الإيرانية جدّاً في إدارة الصراع على ملفها النووي، وفي توفير الطاقة الكافية «للمشاغلة به» وليس «الانشغال» فيه، وخلّصته من إمكانيّة المقايضة عليه، من خلال تقوية رؤوس الصراع والمواجهة الأخرى، ودعمها المناسب للدفاع عن مصالحها جيّداً!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى