عبير شرارة تعدّل نكهة الفراغ بـ«فلفل أسود»

طلال مرتضى

قبل فتح باب الكلام على مصاريعه توقفت طويلاً للقبض عما تريد عتبات المعاني الأولى، سألتني من غير مواربة أما وجدت الدكتورة عبير شرارة لمنجزها الجديد «فلفل أسود» غير هذا المعنون الذي أشي بأنه تجاوز حدّ مباشرته من غير الإمساك بخيط يتيم يربط دوال الحكاية ببعضها البعض.

لعلّ أخذ الأشياء من صورها البعيدة والخارجية كثيراً ما يوقع القارئ في فخّ الشك حين يطلق أحكاماً مسبقة من دون الوصول إلى ماهية هذا الشيء المراد تفكيكه أو الوقوف على نواصي إشاراته وترميزاته وما يكنّه بين حواشيه.

ثمة فوضى عارمة غطّت سهب الغلاف غامرة بالتضادات يحار المرء في البحث عن نقطة ارتكاز بينها كي يدرأ روحه من مغبة السقوط، تلك التفاصيل ضلت عمداً جهاتها تحت سطوة الانحياز المباح تارة للحلم الذي ذهبت به الشاعرة شرارة إلى القصي من ضفافه مؤكداً لم تكن تريد حصد شهادة بدع من قارئها إنما هي حالة الندية للحلم التي يتوقف أمام ضفة ضده الأخرى، أي الحقيقة، الحقيقة التي تخففتها شرارة كما هي، بفجاجتها، بمباشرتها، بحضورها القسري، وهنا أوقع بأنها أصابت مقتلي تماماً حين وقفت لي كند عنيد لتقول: «هذا الذي جعلني أنحو بتسمية ديواني «فلفل أسود»، صار من الصعب قبول الحقيقة كما هي، الحقيقة طعمها مغاير وقد يكون أشد مراراً بعد الاستفاقة لاستذكار حلم تناثرت دواله على حين تلك الحقيقة».

تلك الفوضى العبثية على الغلاف تمثل نكهة الفلفل الأسود الذي ذهبت به شرارة لتغيير نكهة الحياة اعتباراً مما علق بكرة الأرض مروراً بمحيطها الذي تعيش إلى أن تذهب لإغلاق باب غرفتها عليها حيث يبدأ الوقت بنخر هجعتها على حين قلق..

الفنان اللبناني حسن جوني استطاع عبر ما تركته ريشته تجسيد ما أرادت قوله الشاعرة شرارة، فصورة الغلاف لم تكن إلا جزءاً مكملاً لما تكتنز ضفتي الورق فقد جاءت «لطشات» ريشته متناغمة تماماً ومنسجمة كما انسيابية اللغة التي تناولت مواضيع حياتية شتى.

أقول إن العناوين هي صدى مفتعل للمتون. وهذا ما قادني إلى أن أسأل مَن علم تلك الطفلة كل هذا الوجع الأثيم؟ فالوسوم كلّها تدلي بما أشرت، دنيا مكسورة، شمس ضجرة، لون الغياب، في مهب الريح، كان له لون، غداً عندما أموت، قيامة صغيرة، وحدي، أخاف من الخوف، سوار الخوف، حيث تنتهي «بالفراغ»، فبعد المرور بكل المعنونات السالفة وصولاً إلى عتبة الفراغ أيقنت أن الشاعرة التي تدهم حكاية الحضور بجسارة من الداخل مدينة من الفراغ وما دهمها هذا إلا خط دفاع لحماية الطفلة التي تسكنها. وأنت تقرأ لها الفراغ ستُنصت إليك وقد تصمّ أذنيك من باب أن أشد الأصوات صخباً هو رجع الفراغ، الفراغ بكامل هالته هو ما نعاين في اليومي من علاقات وعمل وكل شيء مزيف لا طعم له، لهذا تداركت عبير شرارة وفي اللحظة الأخيرة وكطلقة أخيرة للرحمة من أجل استعادة مبادرة الحياة من جديد بعطر موارب على حكاية الحياة من خلال اجتراعها عتبة عالية تُغير بها النكهة فكان «فلفل أسود».

فنياً، استعملت الشاعرة لغة بيضاء مطواعة أو ما نطلق عليها اصطلاحاً لغة السهل الممتنع، فهي لم تذهب في تقعير موضوعاتها لغوياً أو دأبت لتزيين تصاويرها بكلمات غاوية ذات رنين أو لمعة سرعان ما تنطفئ، قطعاً تحدثت بلسان روحها وهو ما أوصل رسائلها التي أرادت توجيهها إلى قارئها المفترض.

على الرغم من هذا الوجع والفراغ الذي يحوم داخل ديوان شرارة والذي أشير إلى أنه يشبه مدينة خواء تجعل من المرء يدور حول ذاته مثل محور ارتكاز، لا لشيء إنما ليبحث عنه. وهذا يدخلني مرة تالية لسؤالي، إلى أي درجة استطاعت الشاعرة رمي كرة وجعها في ملعبنا كخصوم في ملعب الحياة؟؟

«لستُ خجولةً من حُزني

في زمن الأفراحِ المُستعارة

حزني دمعٌ يفيض إلى داخلي

غضبي يثورُ

كعاصفةٍ تأكلُ ذاتها

ألملمُ خيبتي وانكساراتي

أتوه إلى عرينٍ صغيرٍ لي

أنتحي فيه زاويةً

أكتبُ فيها وجعي

صمتي

قهوتي الباردة

وأحرقُ فيها سجائري

أفكاري السوداءَ

والهدوءَ العجيبَ الذي يلفُّ الأمكنةَ الباردة».

كان هذا يكفي لكي تمني روحها بنصر زائف، ليس لغاية الحضور بعينها بل ولربما أرادت القول إنها لم تزل على قيد الحلم كأقل خسارة وذلك حين لم تستطع ارتداء عباءة المنتصر بل ذهبت للحديث عنه كخلاصة نهائية لكذبة الحياة التي ندعي فنملّها جميعاً، كلنا أمام خسارة فادحة نواربها دائماً خوفاً من مغبة السقوط الحتمي. شرارة الشاعرة وقفت أمام مرآة ذاتها بتجرّد لتقول في النهاية إن لعبة الحياة هي ما بين المنكسر والمنتصر حيث الأخير يحدد دفة الحكاية كلها لأن:

«المنتصرُ يكتبُ التاريخَ والجغرافيا

يكتبُ التاريخَ

يمحو الجغرافيا أحياناً

وفقَ مصالحِهِ

فوق قطعةِ الجبنِ أو اللحم

التي هي أوطاننا بالتأكيد

يضعُ ما يلائمه من الملح

أو الفلفلِ الأسودِ

على ماضينا وحاضرِنا يكتبُ المنتصرُ يومياتِنا

عطلَ نهايةِ أسابيعِنا

أفراحَنا

أتراحَنا

يكتبُ شمسَنا

أقمارَنا

يهدمُ أيامَنا

يجفِّفُ ماءَ ينابيعِنا

يشربُ قهوتَنا

يأكلُ خبزَنا وملحَنا

ولا يشبعُ

المنتصِرُ

شهيّتُهُ مفتوحةٌ على جوعنا».

كاتب سوري/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى