الطوائف والسيادة الميثاق الوطني ـ خلاصات وعبر
نسيب أبو ضرغم
ثمة سؤال يطرح نفسه: ألَمْ يكن في استطاعة رياض الصلح وبشارة الخوري وضع ميثاق وطنيّ حقيقي؟ الجواب نعم ولا. نعم في لو كان الرجلان متحرّرين من التزاماتهما وعلاقاتهما السابقة على وضع الميثاق، والمثال هو في ردّ الوكالة اليهودية على الوعود التي قطعها الصلح أمام بن غوريون وموشي شاريت عام 1934 وكان رد الوكالة اليهودية عليها بأنها «أفهمته… بأن دعم اليهود لأي مشروع عربي سيؤدي إلى إغضاب الموارنة في لبنان، الذين سيشعرون بأنهم أصبحوا أقلية قابلة للذوبان في محيط مسلم، ولذلك عليه أن يعرقل أي مشروع من هذا النوع، وأن يقف في وجه مشروع وحدة سورية الطبيعية، لأنه يخيف شركاءه الموارنة، ويتعارض مع مصلحة لبنان و«إسرائيل» … » البناء، العددان، 981 ـ 982 ـ 17 ـ 7 ـ 99 ـ ص 77 .
في كلام الوكالة اليهودية إلى رياض الصلح أمرٌ واضح يقضي بتجنب محرّمين:
الأول: هو في دمج المكوّنات اللبنانية في صيغة وطنية راسخة، وذلك يقتضي عدم اعتبار الموارنة جزءاً لا يتجزأ من هذا المشرق وكأنهم ليسوا سرياناً سوريين.
الثاني: هو في أي مسعى عروبي، فعلى لبنان أن يبقى حالة معادية للمشرق وللعالم العربي، وفي الوقت عينه متحالفاً مع الدولة اليهودية، بدليل ما قالته الوكالة اليهودية، آمرة رياض الصلح أن يفعله بالوقوف في وجه مشروع وحدة سورية الطبيعية لأنه يخيف شركاءه الموارنة ويتعارض مع مصلحة «إسرائيل» ولبنان.
من خلال هذين المحرّمين اللذين فرضتهما الوكالة اليهودية على رياض الصلح عام 1934 تظهر لنا خطوط الميثاق العريضة في البندين الثاني والرابع منه، ففي البند الثاني يؤكد واضعا الميثاق على أنّ «لبنان ذو وجه عربي يلبس بربارة ولسان عربي عربيّ باللفظ … له طابعه الخاص، «ولكن مع عروبته الوجه واللسان هذه، لا يقطع علائقه الثقافية والحضارية التي أقامها مع الغرب باعتبار أن هذه العلائق قد ساعدته على الوصول إلى الرقي الذي هو فيه .
لنلاحظ مقدار النفاق في صوغ هذا الميثاق!
في البند الأول: لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً، لا تربطها أيّ معاهدة أو أي اتفاق بأيّ دولة، هو «بلد سيد نفسه».
كيف يكون لبنان جمهورية مستقلة، بعد أن يؤكد البند الثاني من الميثاق بأن لبنان لن يقطع علاقاته الثقافية والحضارية التي أقامها مع الغرب…
أما البند الثالث، الذي ينص على ضرورة التعاون مع الدول العربية والدخول في الأسرة العربية هل كان لبنان خارج العرب حتى ندعوه للدخول إلى أسرتهم؟ هل كانت للبنان هوية وطنية وقومية غربية أو ذاتية ونطلب منه التعاون والدخول في الأسرة العربية أيضاً النفاق بعينه .
أما الخط العريض الثاني الذي جسّد أمر الوكالة اليهودية إلى رياض الصلح باعتبار الموارنة كأنّهم جسم معاد لمحيطه، ولنلاحظ عبارة بن غوريون عندما قال بأنّ الموارنة «سيشعرون بأنهم أقلية قابلة للذوبان في محيط مسلم…» لنلاحظ العبارات الثلاث:
«موارنة، ذوبان، محيط مسلم» هذا هو الخط العريض الثاني الذي التزم به الصلح وكان البند الرابع من الميثاق:
«تتوزع جميع المناصب في الدولة على جميع الطوائف بالإنصاف!! إذا كانت الوظيفة تكنيكية روعيت بها الكفاية»!
من خلال تحليل نص البند الرابع نقف على أربع نقاط:
الأولى: عبارة الدولة، إذ يصرّون على أن ما أسسوه في الميثاق الطوائفي ينتج دولة، فهل هي دولة الشعب والوطن، أم دولة الأفراد والطوائف بغياب سيادة الوطن؟
الثانية: توزع المناصب على الطوائف، فلماذا التركيز على الطوائف، ألَمْ يكن في وسع الصلح والخوري القول إن المناصب تعطى لأصحاب الكفاءات؟! ومن ناحية ثانية ألا يعني التركيز على الطوائف لتأسيسها كمكونات سياسية مسقطة المواطنة؟!
الثالثة: كيف يتحصّل الإنصاف طالما أنّ الوظائف توزّع على الطوائف؟ هل الإنصاف هو أن تعطى كل طائفة المناصب التي تليق بعددها، وتبقى للطوائف الأخرى المناصب الثانوية كما هو حاصل تماماً؟ هل الإنصاف أن يكون الشعب اللبناني منشطراً إلى طوائف أبناء ست وأخرى أبناء جارية ؟ هل الإنصاف هو في خلق عقدة الغبن لدى فئة عريضة من اللبنانيين؟
الرابعة: لماذا اللجوء إلى مبدأ الكفاية في الوظيفة ذات الطبيعة التكنيكية ولا يتم ذلك في الوظائف الأخرى؟!
في الخلاصات:
هذا الميثاق ميثاق طوائفي بامتياز، وليست له أيّ صفة وطنية لا من ناحية الأساس ولا من ناحية الشكل، فهو في الأساس طوائفي وفي الشكل مقتصر على تفاهم رجلين لم يعودا أساساً حتى إلى الطائفتين المارونية والسنية، فما بالك ببقية الطوائف؟
يقول د. رباط: «وبناء على ذلك تصعب إقامة البرهان على أن الطوائف الأخرى أو الجموع المارونية والسنية قد استشيرت بصدده، أو دعيت لإبداء رأيها فيه، بناء على ذلك، لا يصح وصفه بالوطني إلا على سبيل المجاز…» د. رباط، المرجع السابق، ص 841 .
وهو إلى جانب ذلك، وثيقة مؤسّسة «الدولة» تعاني من انفصام الشخصية، منزوعة منها هويتها الوطنية والقومية، غربية الحضارة والثقافة، عربية الوجه واللسان، تنتمي إلى المجموعة العربية، ولا تميل إلى أحد!
دولة تعجز في التحديات الداخلية والإقليمية كافة عن حماية الوطن والشعب، لأنها منقسمة فوقياً إلى اتجاهين متعاكسين أسس لهما في الصيرورة اللبنانية البند الثاني من الميثاق.
ميثاق جعل من الطوائف العناصر الأساسية المكوّنة وبالتالي أصبحت مصالح هذه الطوائف ممثلة بزعاماتها تعلو مصلحة الوطن والشعب.
في العبر:
إن صيغة «الميثاق» الملتبسة والمتناقضة والقائمة على محور خارجي، أسست لهذا البناء الدستوري والقانوني والنظامي الذي يستمدّ كل جيناته من هذه الصيغة، وهذا انعكس على مجمل حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل أسس لكل هذه الحروب الأهلية التي عرفها لبنان.
تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى قانون الانتخابات النيابية، لندرك مدى الترابط بين البناء الدستوري والقانوني في لبنان وصيغة الميثاق، القانون الذي كرّس السرطان في الحياة اللبنانية بكامل أشكالها، لأنه القانون المنتج للسلطة، ولا ينتج إلا السلطة الوفية للميثاق وللمادة 95 من الدستور. أي الوفية للمرض اللبناني.
لقد أسست صيغة الميثاق لأمرين خطيرين:
الأول: أنها خلقت في الجسم اللبناني عوامل الضعف والتفكك كافة.
الثاني: أنها خلقت القصور الذاتي عن معالجة الأزمات الشاملة.
يقول د. رباط:
«كانت صيغة الميثاق تحمل في ثناياها جراثيم التحلّل والتعفّن التي لا بد من أن تدب بكل بنية متعددة الطوائف، ما لم تعالج هذه البنية من خارجها».
بلى، لذلك كان لبنان يتشظى في كل لحظة لم يعد فيها ممسوكاً، إذ لم يتماسك يوماً بفعل التعفن والتحلل والجراثيم التي ضختها صيغة الميثاق في جسده.