وإليك قلبي يا دمشق فمنك ينهمر الصباح!

نصار إبراهيم

هذي دمشق تقاوم وتردّ بما يليق بها…

كان مروري في دمشق أول مرة عابراً، كان ذلك في نهاية السبعينيات من القرن الماضي… فقط شعرت حينها أني في دمشق… كان يكفيني يومها بهاء الاسم وشحنة الذاكرة… وأنني مررت في دمشق.

أثناء ذلك المرور العابر لم أصل إلى دمشق… فدمشق لا تمنح أسرارها للعابرين… كان يجب أن أعود إليها وحدها… حينها سأعرف دمشق وتعرفني… حينها نتبادل الحب الذي ينضج كالحنطة على مهله… أو يأتي غامراً كفيض الياسمين النديّ.

عدت إلى دمشق في بداية الثمانينات وأقمت فيها حولين… من يومها ودمشق تقيم في خوابي الوعي الأكثر وضوحاً وفي الذاكرة الأكثر حضوراً والأهمّ في نبض المواقف…

غادرت دمشق منذ 21 عاماً، وتحديداً في 1998… عدت إلى فلسطين… ومع أنّ العمر يمضي… إلا أنّ دمشق تتمدّد وتنمو في الأعماق وتعرِّش كياسمين ينهدل من شرفات البيوت ومن خلف الأسيجة في أحياء «أبو رمانة» والمزرعة والمالكي…

لدمشق في فلسطين صدر الوعي والحب… فهي وجه الشام الجنوبي الطبيعي بقدر ما هي الشام وجه فلسطين الممتدّ شمالاً… فمَن بمقدوره أن يفرّق ما جمعه الله والتاريخ…!؟

للمدن أسرارها وطريقتها في الغواية… ودمشق سيدة المدائن تمارس سحرها بأناة… نتنفسها مع الهواء، نشربها مع ماء عين الفيجة، تأتينا بعبق الغوطة حين تزهر فتملأ الفضاء بفيض النحل والفراشات.

لدمشق آياتها المعجزة… أحياؤها القديمة… قلعتها الراسخة… أبوابها البهية… بيوتها، نوافذها، مقاهيها، مطاعمها، حدائقها مساجدها، كنائسها، تكاياها… وجسور تنقل الفكرة بين ضفتي بردى كنبض القلب وأبعد…

لشوارع دمشق قدرة مدهشة على الجذب… أمشي فيها كمن يكتشف الوعي… شارع الثورة، شارع 29 أيار، الصالحية، المزة…

لأحيائها إيقاع يغمر الوعي بالتاريخ والرسوخ: الميدان، الشاغور، باب توما، القصَاع، السبع بحرات، المزرعة، أبو رمانة، المزَة…

في ضجيج دمشق… أنسى ذاتي فأذوب في الجمع… لغة أليفة، نداءات أليفة تأخذني نحو إيقاع زمن عربي كريم… العباءات العربية، دلال القهوة، طَرقات النَّحّاسين والصاغة، أسرجة الخيل… والقرنفل والقرفة… و…

لدمشق رائحة الشرق الأشهى الدافئة القريبة… تأخذك مغمض العينين إلى حاراتها وأزقتها وهدوئها وهيبتها وأيضا إلى عفويتها في الحضور والمقاومة…

أمشي بجانب السور العتيق أسمع ما تحكي الحجارة… أبراج تطلّ وأبواب تنفتح على جهات الأرض بقوة التاريخ ترحب بالقادمين لتعلم الحياة… وتأخذهم إلى حيث تمتدّ سورية بكاملها…

للوقت في دمشق حضور مختلف: مع تراتيل الفجر ينهض الحمام من ساحات المسجد الأموي ومن ساحة المرجة ويذوب في تفاصيل المدينة… ليؤدّي طقوس الانتماء في قاسيون…

وفي النهار تشتعل دمشق بناسها والوافدين إلى مدينة تفتح أبوابها لتصهر الجميع وتعجنهم كأغمار حنطة فيولدون من جديد…

ومع المغيب… تطير العصافير تجوب السماء وتعود إلى أعشاشها بقصفة ياسمين… تصعد حيث قاسيون… حيث معبد آلهة تحرس المدينة… هناك على ذرى الأعالي ينهض ضريح الجندي المجهول ليحرس ليل دمشق التي لا تنسى شهداءها فترفعهم حيث جبينها العالي… ذلك لأنه حين تشرق الشمس وحين ينهض القمر فإنّ أول ما عليهما أن يفعلاه هو أن يعانقا ضريح الشهداء… حينها تردّ دمشق بما يليق بها… تقاوم

وتغني:

حماة الديار عليكم سلام

أبتْ أن تَذلّ النفوس الكرام

عرين العروبة بيت حرام

وعرش الشموس حِمىً لا يُضام…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى