تظاهرات فرنسا ليست بعيدة عن «الاستخبارات»
روزانا رمّال
ربما لم يعد ممكناً الحديث عن حركات مطلبية بدون التفكير مباشرة بأهمية البحث اكثر بما يدور وراءها واذا كان هناك ما يستدعي التفكير فهو سياسي بامتياز، ولم تكن تظاهرات اوروبا يوماً بعيدة عن حسابات الاحزاب المتقابلة بين اسقاط حكومات وتبدل سياسات اقتصادية. اما تظاهرات موسكو التي غذتها المعارضة عام 2012 تلقتها السلطة على أنها رسالة خارجية اميركية اعترفت بها الوزيرة هيلاري كلينتون آنذاك والتي لم تتمكن من الهرب من عقاب الرئيس بوتين وأجهزته الأمنية. وهي واحدة من اسباب دعم الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات. وهذا الأمر الذي ابتز اللوبي الاسرائيلي ترامب منذ بداية حكمه على خلفية تدخل روسي بالانتخابات الرئاسية للمرة الأولى قلب المعادلة كلها وقوّض ترامب حتى تمكن من التحرر تدريجياً من المخطط الذي تم تحضيره.
هذه الحادثة ليست بعيدة عن ما يجري اليوم في فرنسا، صحيح ان تظاهرة فرنسا مطلبية معيشية الا أن شيئاً لم يثبت ان التظاهرات المعيشية ليست خاضعة أيضاً للخرق ولا شيء يثبت أيضاً ان الاستخبارات الاميركية التي تتعقب حركة ايمانويل ماكرون الاقتصادية والانفتاح على الشرق، خصوصاً إيران بمنأى عن رفع الفيتو على سياساته.
تاريخ تظاهرات السترات الصفراء ليست جديدة، لكن الجديد اليوم موجة عنف غير مسبوقة تحدثت عنها وزيرة العدل الفرنسية مؤكدة انها وحكومتها لن تتهاون في التصدي ومعاقبة المتعدين اولئك الذين أحرقوا بوحشية املاك الناس وسياراتهم بدون ان يحسبوا حساباً للشرطة. كل هذا بدا طبيعياً حتى بدأت تتدحرج كرة النار فقد توسعت دائرة المشاركة بالاحتجاجات ولم تعد تتوقف فقط على سائقي السيارات العمومية وصارت كل القطاعات العمالية مهددة بالانضمام لما تحضره القوى المنظمة التي يبدو أنها نجحت بتكبير كرة النار امام ماكرون.
صار أكيداً ان الملف يتصاعد وأن هناك من يريد لي ذراع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وإخضاعه. والأكيد انه تم استخدام قوى تناهض سياساته مثل حزب مارين لوبان وغيرها والانقضاض على المطالب الشعبية للضغط اكثر.. لكن مَن وراء ذلك؟ وهل يمكن توقع اي تدخل خارجي في هز الاستقرار الفرنسي؟ اذا كان هذا ممكناً، مَن هي الجهة الخارجية القادرة على ذلك؟ وما هي المؤشرات التي تؤكد او تنفي هذا الافتراض؟
انها المرة الأولى التي يظهر فيها دور اميركي مباشر يتزامن مع مواقف مطلوبة يؤسس عليها مصير الرئيس الأميركي ومصير فوزه برئاسة ثانية لأنها ملفات تتعلّق بالشرق الأوسط وتحديداً بأكبر الملفات وأكثرها قدرة على قلب المعادلات وهي أولاً: ملف صفقة القرن، وثانياً ملف العلاقة مع إيران بين القطيعة او العقوبات.
دبلوماسي غربي متابع يقول لـ»البناء» إن الاستخبارات غير بعيدة عن كل ما يجري في شوارع باريس، بل انها اليوم أكثر نباهة ووعياً. وكل التقارير عن امكانية تكبير الهوة بين الشارع وماكرون صارت موثقة. وبالتالي فإن الوقت مؤاتٍ جداً للاستفادة من اي مطلب او تنازل من ماكرون خصوصاً بما يتعلق بملفات شرق أوسطية لم يتماشَ الأخير وإياها مع السياسات المطلوبة غربياً، فكيف بالحال وان ما يعرف بصفقة القرن محكومة بموقف أوائل العام لا تبدو فرنسا من المؤيدين او المرحبين؟ وهي لطالما اخذت موقفاً واضحاً تجاه دعم الفلسطينيين، كذلك الأمر بالنسبة لفكرة القطيعة مع إيران او العقوبات عليها. وهي غالباً تنتهج مواقف مغايرة عن الاميركيين او اقل حدة وتعاود دراسة مواقفها بدلاً من التشدد. كل هذه عناصر قادرة على فتح الباب امام عملاء للاستخبارات دولية ترغب في اخضاع ماكرون».
سياسات عدم القطيعة مع إيران وعدم المضي قدماً بنسف الاتفاق النووي وعدم تعاطي ماكرون مع صفقة القرن كما يجب، كلها اسباب تجعل الاميركي ينتظر الانقضاض للنصح أو لهز العصا بوجه الحلف الأوروبي الأول تاريخياً « فرنسا»، لكن هذه المرة العلاقة تغيرت منذ قدوم ترامب الى سدة الرئاسة الأميركية ويبدو انه لا يبالي حتى بمصير هذا التاريخ بين البلدين.
مؤشر بالغ الاهمية ظهر عن ترامب الذي كان قد انتقد منذ اسابيع اقتراح ماكرون بناء جيش أوروبي. وقال إن شعبيته اي شعبية ماكرون في فرنسا لا تتخطى الـ 26 في المئة، وإنه أتى الوقت وعلى الفرنسيين مهمة إعادة «فرنسا عظيمة مجدداً»…. وهذا كلام كبير جداً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقليب الفرنسيين وحثهم على الضغط على رئيسهم الذي صارت معه فرنسا أضعف. كما يريد أن يوحي
المدخل الذي يهاجم فيه ترامب نظيره الفرنسي هو اقتصادي بحت وفكرة «العظمة» التي يتحدث عنها ترامب مرتبطة بإنجازه الذي شكر «نفسه» عليه في كلمته بعيد الشكر، حيث عبر عن اعجابه بما أنجزه فالولايات المتحدة لم تكن بهذا الوضع الجيد منذ فترة بعيدة ويشير اقتصاديون الى ان الوضع المالي في الولايات المتحدة تحسن بشكل كبير جداً في عهد ترامب على الرغم من سياساته المتطرفة وكثرة الأعداء من حوله وإذا كان لهذا من سبب فإنه بلا شك يعود الى سياسات ترامب الأخيرة.
ماكرون الذي رد على ترامب قائلاً «علينا أن نحترم بعضنا البعض كحلفاء»، لم يكن يعرف ان التحالف الاميركي الفرنسي قد يتعرّض لاهتزاز من هذا النوع. وهذه النبرة لم تعرف بين رؤساء البلدين حتى وصلت حد القطيعة منذ وصولهما إلى سدة الحكم في 2017. وتكشفت لماكرون طباع ترامب الحادة التي سبق أن اختبرها حلفاء لواشنطن كرئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس وزراء كندا جاستن ترودو…
على ماكرون تقديم الكثير لصفقة القرن وتحدّي إيران والانضمام الى المقاطعة كالملك الاردني الذي تحركت بوجهه تحركات مطلبية الأشهر الماضية استغلتها «إسرائيل» لتهز العصا في ملف «صفقة القرن»، حيث لا تزال زيارة نتنياهو محط شكوك كثيرة، أما الاكيد فهو ان تدحرج الشارع الفرنسي صار أكبر وأخطر من ان يكون مطلباً معيشياً فقط واشارات ترامب صارت اوضح من اي وقت مضى تجاه باريس.