اشتراكيّة صاعدة في القرن التاسع عشر ناقش إنغلز «يوتوبيّتها» وعلميّتها

جورج كعدي

لقي تعريف فريدريك إنغلز لعبارة «يوتوبيا» قبولاً واسعاً، ففي حين ظلّت هذه العبارة تعني حتى القرن التاسع عشر المجتمع المثاليّ المتخيّل صعب التحقيق، منحها إنغلز في كتابه «الاشتراكيّة اليوتوبيّة والعلميّة» معنى أبعد بكثير ضمّنه الخطط والمشاريع الاجتماعيّة التي لا تعترف بتقسيم المجتمع طبقات، ولا بحتميّة الصراع الطبقيّ والثورة الاجتماعيّة. ويأخذ على الكتّاب «اليوتوبيّين» أنهم لم يدركوا أنّ الاشتراكيّة لن تكون ممكنة إلاّ عندما يسجّل النظام الرأسماليّ درجة تطوّر معيّنة، قائلاً: «إن ظروف الإنتاج الرأسماليّ السيّئة، وظروف الطبقة البروليتاريّة ، السيّئة أيضاً، تقابلها نظريّات سيّئة. وحاول اليوتوبيّون استنباط حلّ للمشاكل الاجتماعيّة ـ التي ظلّت كامنة في الظروف الاقتصاديّة غير المتطوّرة ـ من داخل الذهن البشريّ، فالمجتمع لا يقدّم، في نظرهم، سوى الأخطاء، ومهمّة العقل إزالة تلك الأخطاء. لذا كان ضروريّاً اكتشاف نظام اجتماعيّ جديد أكثر كمالاً وفرضه على المجتمع من خارجه بواسطة الدعاية، أو بفرض التجارب النموذجيّة عليه كلّما أمكن ذلك. ووصفت هذه النظم الاجتماعيّة الجديدة بأنّها يوتوبيّة، وكلّما أمعن أصحابها في شرحها واستكمال تفاصيلها، ازداد انزلاقها نحو الخيالات المحض».

وَصْفُ إنغلز لـ«اليوتوبيّات» الاشتراكيّة صحيح جوهراً، فمعظمها يريد لجميع وسائل الإنتاج والتوزيع أن تكون ملكاً عامّاً مشتركاً، لكنّها لا تعتقد أنّ الثورة ضروريّة لتحقيق ذلك، وتخال أن في وسع الدولة تسيير الآليّة الاقتصاديّة بطريقة سلميّة، حين توافق أغلبيّة السكّان على أنّ ذلك أنسب الحلول. كما أنّها لا تؤمن بوجود صراع بين الطبقات، ولا بأنّ البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على إنجاز الثورة. وهي تؤكد أيضاً ـ على عكس النظريّات الماركسيّة ـ أنّ المجتمع الجديد يمكن إقامته في أيّ زمان وأيّ مكان، شرط أن تصمّم الحكومات والشعوب على ذلك. كما أنّها لا ترى، أخيراً، أنّ ثمة علاقة بين تطوّر الرأسمالية وإمكان قيام مجتمع جديد.

كان الفكر «اليوتوبيّ» تلقّى في عصر النهضة دفعة قويّة من الأفكار الفلسفيّة الجديدة، وتأسيس الدول القوميّة، واكتشاف العالم الجديد. وفي مطلع القرن التاسع عشر وقعت حوادث لا تقلّ خطراً وأهميّة وبعثت في الفكر «اليوتوبيّ» حياة جديدة. في ذلك، الآثار الناجمة عن الثورة الفرنسيّة، وتطوّر الصناعة السريع، وتبلور النظم الاشتراكيّة. وكانت الثورة الفرنسيّة قوّت الطبقة الوسطى البورجوازيّة ، لكنّها أكدت في الوقت نفسه على حقوق العمّال والفلاّحين الذين أبدوا استعداداً للدفاع عنها بالقوّة.

ولم تستطع البورجوازيّة المنتصرة إغماض عينيها عن المظالم الاجتماعيّة التي كان ممكناً في أيّ لحظة أن تنطلق منها حركة ثوريّة قويّة. وحاولت قلّة من المفكّرين الإنسانيّين ومحبّي البشر التخفيف من البؤس المتفاقم، وبلغ البعض حدّ المطالبة بالمساواة التي دعا إليها فلاسفة ما قبل الثورة وكانت من الأهداف التي توقّع أن تحقّها الثورة.

غير أنهم لم يثقوا بالشعب وأشفقوا على رؤيته يلجأ إلى الوسائل الثوريّة لتغيير النظام، لذا سعوا إلى حلّ سلميّ من خلال الإصلاح الاجتماعيّ. وضعوا ثقتهم بحاكم عظيم ينبغي أن يكون بمنزلة «نابوليون اشتراكيّ» قادر على فهم الروح الثوريّة الجديدة، ويقتنع بأهميّتها والحاجة إليها من خلال التجربة الناجحة للمجتمعات أو الاتّحادات، ويُنجز بالطرائق السلميّة وبقوّة الشخصيّة الثورة التي تعود إلى البشر بالرخاء والسعادة. لم يكن مضى على حكم العبقريّة العسكريّة المتمثّلة في نابوليون إلاّ فترة قصيرة، فماذا يمنع ظهور عبقريّة اجتماعيّة تقود أوروبا وتبعث الحياة في «الإنجيل» الجديد؟

شرّعت الثورة الصناعيّة آفاقاً جديداً، وخال كثر أنّها قدّمت حلاً لمشاكل الفقر وعدم المساواة، وبدا أنّ مضاعفة الإنتاج لن تقف عند حدّ، وأنّ ليس ثمّة ما يمنع أيّ إنسان من أن يعيش مثلما يعيش البورجوازيّ، فالمساواة لن تكلّف أحداً أيّ تضحية، طالما أنّ المجتمع الجديد لن ينتقص من الرخاء الذي ينعم به الأثرياء، بل سوف يرفع الفقراء إلى مستواهم. ولم يقتصر الأمر على توفير التقدّم الصناعيّ مزيداً من الترف والرفاه، بل تبدّل الموقف من اللّذات برمّته على نحو تامّ. كان الناس في «يوتوبيا» مور يعيشون حياة قاسية، لا بسبب الفقر والعوز، إنّما لاعتقادهم بأنّ الترف سيؤدّي حتماً إلى الفساد والانحلال. وكان تصوّر الكتّاب «اليوتوبيّين»، باستثناء فرنسِس بيكُنْ وبعض أمثاله، أنّ معنى التقدّم تحسين أحوال الناس من النواحي العقليّة والجسديّة والأخلاقيّة، وأنّ ذلك لا يتحقّق من خلال الاهتمام الفائض بالسلع الماديّة، ولا من خلال الانغماس الشديد في المتع والملذّات التي يمكن أن تفسد العقل. ولا نقع على مثل تلك الاهتمامات الأخلاقيّة لدى كتّاب «اليوتوبيا» في القرن التاسع عشر، فهم ماديّون على نحو مخجل ولا يتورّعون عن احتساب نصيب الفرد من السعادة بالاستناد إلى ما يملك من أثاث منزليّ وملابس وأنواع طعام يتناوله في كلّ وجبة… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى