سليم الحص الإنسان ورجل الدولة وحكْم القانون
د. عصام نعمان
من حق الدكتور سليم الحص علينا، في زمن الانحطاط والفساد والفوضى، أن نشهد له باعتزاز كشخصية عربية قدوة ومميّزة مثّلت بخصالها ومواقفها وأدائها التزاماً ساطعاً بمبادئ حكم القانون والإدارة الرشيدة. انه الإنسان ورجل الدولة وداعية سيادة القانون والمساواة والشفافية، والمقاوم بلا هوادة للظلم والفساد والطائفية والتخلّف والصهيونية.
يمكن إجمال مفاهيم حكم القانون بتعريفٍ جامع: خضوعُ الدولة والحكومة للقانون، ومساواة الحاكمين والمحكومين أمام القانون، وإشاعة العدالة العامة، والتصدي للفوضى الكيفية. اما الإدارة الرشيدة فتقوم على مرتكزات الانتظام القانوني، ومنهجية الشفافية، والمساءلة.
الشعب بكلّ أطيافه يشهد للرئيس سليم الحص كما يشهد هو لنفسه بتجربته المترعة بمبادئ حكم القانون ومعايير الإدارة الرشيدة، كما سجّلها وعبّر عنها بصدقٍ وشفافية في اثنين من كتبه، وبحرصه على التناسق بين مواقفه وممارسته أثناء تولّيه رئاسة الحكومة مراراً وبين المبادئ والمعايير الأساسية لحكم القانون والإدارة الرشيدة المستمدّة من مشروع العدالة العالمي، ومواثيق الأمم المتحدة، وأبحاث نخبة من فقهاء القانون وأعلامه.
تقتضي الإشارة، بادئ الأمر، الى أنّ رئاسة الحكومة آلت الى سليم الحص في مرحلة عصيبة بالغة التعقيد، لبنانياً وعربياً وعالمياً. كان لبنان يعاني خلالها مضاعفات حربٍ أهلية امتدّت من منتصف سبعينيات القرن العشرين حتى مطالع تسعينياته، وكانت سبقتها حربٌ ضارية بين مصر وسورية من جهة و»إسرائيل» من جهة أخرى، وعقبها إقرارُ اتفاقات «كامب دايفيد» ومعاهدة الصلح المصرية -الإسرائيلية، واندلاع ُ الحرب العراقية الإيرانية، وإقدام منظمة «القاعدة» الإرهابية على تنفيذ ضربات تدميرية في عمق الولايات المتحدة، وقيام هذه الأخيرة بغزو افغانستان واجتياح العراق الامر الذي خلّف تداعياتٍ مفجعة انعكست سلباً على بلاد العرب، ولا سيما على لبنان.
يفتخر سليم الحص بأنه تصدّى مبكراً لبدعة «ترويكا الحكم»، وهي صيغةُ مشاركةٍ في قرارات الحكم وتقاسم النفوذ بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات. بإنهائه هذه المخالفة السافرة للدستور، قضى الرئيس سليم الحص ايضاً على ممارسات فاقعة من الفساد وصرف النفوذ كانت جرت في ظل «ترويكا الحكم» هذه واتخذت شكلَ المحاصصة بين كبار اركان السلطة في التعيينات الادارية، واحياناً المشاريع، وفي توزيع تراخيص وسائل الإعلام المرئي والمسموع، وبعض هذه الاعمال يقع تحت طائلة احكام قانون الإثراء غير المشروع.
تصدّى سليم الحص لمخالفة أحكام الدستور عشيةَ اعتزام رئيس الجمهورية آنذاك الياس سركيس في مطلع الثمانينيات الاستقالة ومطالبته الرئيس الحص بأن يستقيل هو اولاً لتمكينه من تأليف حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش. رفض الرئيس الحص طلب الرئيس سركيس وأكد عزمه على الاستمرار في الحكم عملاً بإحكام المادة 62 من الدستور التي تنصّ على انه « في حال خلوّ سدة الرئاسة لأية علّة كانت، تُناط السلطة الإجرائية وكالةً بمجلس الوزراء».
وفي معرض مناقشة قانون تنظيم عمليات التنصّت على المخابرات الهاتفية، ذكّر سليم الحص النواب بأنه سبق له أن اعترض على التنصت بتوجيه سؤال للحكومة سنة 1993، وانه ما زال متمسكاً بأن التنصت يجب ان يكون الاستثناء، وان القاعدة يجب ان تكون منع التنصت لأنه يشكّل تعدياً على حقوق الناس وحرياتهم. لكن مجلس النواب لم يأخذ بملاحظاته إذ أقر قانوناً شرّع بموجبه التنصت على الجميع باستثناء كبار مسؤولي الدولة!
أكّد الرئيس الحص دائماً على مبدأ استقلال القضاء، وتبنّى لهذه الغاية مشروعاً كان أعدّه أحد أعضاء ندوة العمل الوطني التي كان رئيسها، يقضي بانتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة أنفسهم، مع إيلاء المجلس المذكور صلاحية تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وصرفهم من الخدمة. وإزاء الصعوبات التي اكتنفت آنذاك إحالة هذا المشروع على مجلس النواب لإقراره، دعا الرئيس الحص في مداولاته مع كبار القضاة الى التقليل من اللجوء الى التوقيف الاحتياطي ولا سيما قبل اكتمال التحقيق مع المشتبه به اذ كثيراً ما تطول مدة التوقيف الاحتياطي لينتهي الامر في احيانٍ كثيرة الى منع المحاكمة عنه أو ثبوت براءته.
ولعلّ أهمّ إسهامات سليم الحص الإصلاحية وثيقةُ «مبادئ الوفاق الوطني» التي وضعها بالاشتراك مع رئيس مجلس النواب آنذاك السيد حسين الحسيني، وقام هذا الأخير بتقديمها كورقة للمناقشة في المؤتمر الذي عقده النواب اللبنانيون في الطائف بالمملكة العربية السعودية سنة 1989 وانتهى الى إقرار وثيقة الوفاق الوطني الإصلاحية. الجدير بالذكر أنّ هذه الوثيقة المعروفة باسم «اتفاق الطائف» اعتمدت معظم البنود الإصلاحية المنصوص عليها في وثيقة «مبادئ الوفاق الوطني» التي كان أعدّها الرئيسان الحص والحسيني وقام الحص لاحقاً، بوصفه رئيساً للحكومة، بوضع مشروع قانون دستوري أيلول/ سبتمبر 1990 وأحاله على مجلس النواب لتمكينه من تعديل الدستور بموجبه بغية إدخال إصلاحات «اتفاق الطائف» في متنه.
إلى إسهاماته الإصلاحية اللافتة، تميّز سليم الحص بتمسكه الثابت بالديمقراطية وبالتداول السلمي للسلطة. ليس أدلّ على ذلك من مسارعته الى تهنئة منافسيه بالفوز في انتخابات العام 2000 رغم انّ سقوطه، بل إسقاطه، في تلك الانتخابات كان نتيجة استخدام المال السياسي وإثارة العصبيات المذهبية ضدّه. فقد تمسك بمبدأ التداول السلمي للسلطة، مسجلاً مكرمةً استثنائية غير مسبوقة في تاريخ العرب المعاصر ألا وهي كونه الحاكم العربي الأول، وربما الوحيد، الذي يتقبّل الخسارة في الانتخابات وهو في قمة السلطة.
ثمة مكرمة أخرى لا تقلّ أهمية عن المكرمة سالفة الذكر هي تقبّله الرصين والطريف في آن لهزيمته الانتخابية. فقد أقام له أصدقاؤه، غداةَ إعلان نتائج الانتخابات، إفطاراً رمضانياً تكريماً له ألقى خلاله كلمةً قال فيها ساخراً: «اثنان يستحقان التكريم، ذاك الذي نجح بتفوّق، وذاك الذي سقط بتفوّق، ولن أبوح لكم إلى ايٍّ من الفئتين أنتمي»!
هكذا بذل سليم الحص نفسه في مسيرته السياسية من أجل وطنه وأمته: التزاماً حتى السديم العظمي بالأخلاق والحرية والديمقراطية والعدالة والرحمة، وبنضالٍ لا هوادة فيه ضدّ العنف والظلم والفساد والطائفية والصهيونية والجاهلية المعاصرة.
بأمثاله نرتقي في سلوكنا من حضيض «قبائل العصر التي تُسمّى طوائف»، على حدِّ قوله، الى علياء المواطنة المترعة بمواطنين أحرار يحيا في ضمائرهم وطنٌ حرّ.
سليم الحص وأمثاله شرطٌ وضمانة للتغيير والتطوير والارتقاء إلى رحاب الدولة المدنية الديمقراطية القادرة والعادلة.
كلمة في تكريم الدكتور سليم الحص لمناسبة الحفل الذي أحياه المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة لهذه الغاية في بيروت.
وزير سابق