لا تقترب كثيراً ليبقى الجميل جميلا!…

علّمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والأخرى، كذا حركة الحياة الّتي هي جميلة، رغم كلّ منغّصاتها وشخوصها المتناقضة والمتواترة… فلنترك مسافة قبل الحسافة، فالبعض أجمل من بعيد. وكذا العلاقات الإنسانيّة فكلّما اقتربنا اصطدمنا وانصدمنا.

فالحياة بتركيبتها المعقّدة والبسيطة بآنٍ معاً تحتاج لمكونّاتٍ كالمادّة ومضادّها كالالكترون والنترون كالجذب والنبذ، ولا بدّ من تواجد النقيضين في كلّ شيءٍ حتى يتحقّق التّوازن.

فالأشخاص الذّين يعيشون معنا هم جزء من تلك التّركيبة….

فهناك من يتمتّعون بخاصيّة الجذب وآخرون لا يملكون إلاّ خاصيّة النّبذ، قليلون هم اليوم أولئك الذّين مازالوا يتمتّعون بالخاصّتين معاً، فتارة يتجاذبون وتارة يتنابذون، ولكنّهم لا يخرجون من فلك ومدار الحياة.

أصبحت اليوم كثيرة الحساسيّة حيال مَن يستترون بمظهر يحتمل أوجهاً عدّة، وأولئك الذّين يجاهرون بلغتين محكيّة لا نفهمها ومكتوبة ليست من صنعهم، وهؤلاء الذّين يعتقدون بأنّ كلّ من حولهم حمقى وهم وحدهم الّذين يتمتّعون بالمادّة الرماديّة في نخاعهم المشوّه.

لا أدري ما الّذي يجعل البعض يكذبون وهم يعلمون أنّ أحداً لن يصدّقهم ولو نطقوا بالصّدق…

وأَعجَب ممّن يتبنّى أفكاراً لا يلتزم بها وإيديولوجيا لا تمتّ له بصلة فقط لمجرّد التّباهي وحبّ الظهور، ولكن عفواً، فالمتعالون على النّاس كلّما ازدادوا تعالياً استصغرتهم عيون الآخرين..

للأسف لم تعد أغلبية الناس حقيقيين في حياتنا، أصبح الكثيرون مزوّرين مشوّهين بل أكثر من ذلك يعانون من خللٍ جينيّ في تفكيرهم.

فالبعض يتحدّث في ما لا يعنيه وآخر يخوض في أمرٍ لا يمتّ إليه بصلة وكثيرون يتبنّون بالقول فقط عقيدة هم بعيدون كلّ البعد عن تطبيق مبادئها وتعاليمها.

أصبح التّناقض واضحاً في شخصيّات المجتمع. فالصّامت في مجالس المتحدّثين كاتبٌ أشوس على صفحات النّت لأنه يكتب من نتاج غيره، والمتحدّث والخطيب بلغاتٍ معقّدة هو ببّغاء يردّد ما قاله الآخرون دون فهم كعدد سالب كلّما كبرت أرقامه نقصت قيمته.

لم تعد الفطرة هي الّتي تقود أفكارنا ولا العفويّة هي الّتي تثير مخيّلتنا… أصبحت الشيزوفرانيا الاجتماعيّة مرآة معاناة البشر، فيلعب كلّ إنسان شخصيّات عدة كلّ واحدة تتناسب مع الوضع والحالة طرداً أو عكساً… أحياناَ نضطّر لتلك اللّعبة ولكن لهنيهات أو ربّما للحظات أو لبعض الوقت.

ولكن أعجب من هؤلاء الّذين يتقنون تلك اللّعبة طوال الوقت وطيلة حياتهم… لدرجة أنًهم باتوا يصدّقون أكاذيبهم وهرطقاتهم بحرفيّة عاليّة.

فهل نكذب أم نتجمّلّ؟!

فالحياة والدّنيا أوراق تطويها الأيّام وتمزّقها ثمّ ترميها فلم الازدواجيّة؟…

حتّى القلوب أصبحت ألواناً… أهي قلوب قاسيّة أم قلوب كأفئدة الطّير حانية، قلوب تنبض أم توابيت خاوية، قلوب تحترق وأخرى كالورق أنهكتها ليالي الأرق؟…

كم جميل هو الإنسان عندما يعيش بفطرته فأفكاره من وحي ضميره وأحلامه من وحي منامه وكلامه من وحي وجدانه وأحاسيسه.

فأولئك الّذين مازالوا يضحكون من قلوبهم عند سماعهم طرفة ولو كانت قديمة، ومَن ما زالوا يبكون بملء دموعهم عندما يرون منظراً مؤثّراً مهما بلغ صغره ومن ينطقون كلمة الحقّ أمام السلطان ولو كان جائراً هؤلاء هم المضاءة دروبهم فهم الصّحبة الوفيّة والمصباح المضيء الّذي قد لا ندرك نوره إلاّ إذا أظلمت بنا الدّنيا… فكما النّهر لا يشرب ماءه فالصّدق والمودّة والرّحمة والمحبّة جُعلت في مضغة القلب وشفافيّة الرّوح لتُسقط التيجان عن الرؤوس فتشعل الودّ كي يكون نهجاً لتجاذب الأرواح فهل نترك المسافة!!…

رنا جنيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى