الدلالات الاستراتيجية لمؤتمر الرئيس بوتين في كانون الاول 2018
أحمد الزين
منذ تولّى فلاديمير بوتين حكم روسيا، وكشأنه تقريبا في كلّ عام استضاف الرّئيس الرّوسي مؤتمراً صحافياً أجرى خلاله جوجلة للعديد من الأمور داخليّة كانت أم خارجيّة وحتى شخصيّة. وقد قامت وسائل الإعلام الرّوسيّة ببثّ هذا الطّقس السّنوي على مدى أربع ساعات أو يزيد. والأكيد أنّ هذا الوقت طّويل نسبيّاً بالنّسبة لمؤتمر صحافيّ يستضيفه رئيس دولة كبرى، إلا أنه لا يرقى إلى الوقت الّذي استغرقه مؤتمره الصّحافي عام 2008 إذ بلغت مدّته أربع ساعات وأربعين دقيقة.
ولعلّ هذا المؤتمر قد اكتسب هذا العام أهمية إضافيّة خاصة بعد الخطوتين المتهوّرتين للرئيس الأميركي دونالد ترامب والمتمثلتين بانسحابه من معاهدة التخلّص من الصواريخ المتوسّطة والقصيرة المدى الموقعة عام 1987 بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وبإعلانه المفاجئ عن انسحاب القوات الأميركية من سورية التي لم تلاق استحسان وزير دفاعه الذي انضمّ الى عشرات الشخصيات الرفيعة التي استقالت من مهامها خلال سنتين من حكم ترامب.
جزء من دلالات هذا المؤتمر هو اللقاء الّذي سبقه بيوم واحد، مع قادة عسكريين روس في موسكو حمل رسائل عابرة للقارات. في هذا الاجتماع، صرّح الرّئيس بوتين أنّ الأسلحة الروسية الجديدة ليس لها منافس في جيوش العالم، وأنّ هذا الأمر سيساعد على ضمان أمن البلاد لعقود. وكذلك كشف الرئيس بوتين عن صاروخ «كينزل» الجديد الذي تفوق سرعته سرعة الصوت. وعن سيارة الانزلاق «أفنغارد» التي لا تقهر والتي سيستعملها الجيش الروسي بشكل رسمي في العام المقبل.
لم يتأخر الردّ الأميركي كثيراً على هذه التّصريحات. فقد غرّد الرئيس الاميركي ترامب في اليوم التّالي قائلاً: «روسيا وإيران وسورية وغيرهم كثيرون ليسوا راضين عن مغادرة الولايات المتحدة للسّاحة السورية، رغم ما تتداوله الأخبار الكاذبة، لأنهم الآن سيضطرون لمحاربة داعش وآخرين، الذين يكرهونهم، من دوننا. أنا أبني أكبر قوة عسكرية في العالم. إذا ضربتنا داعش سنمحوها!» والغريب في هذه التغريدة عبارة «أنا أبني» إذ لم يشهد العصر الحديث منذ ما بعد عهد «هتلر» استعمال الأنا لرئيس دولة. أما كلامه عن أكبر قوة عسكرية في العالم فهنالك شكّ كبير في هذه المعادلة حيث صرّح خبراء عسكريون أميركيون قبل ثلاثة اشهر أنه في حال اندلاع حرب عسكرية بين أميركا وروسيا فإنّ الهزيمة ستلوح في أفق واشتطن.
بالعودة إلى المؤتمر الصحافي فقد استضاف الكرملين حوالى ألف وسبعمئة صحافي روسي وأجنبي، وأجاب خلاله الرئيس عن أسئلة تتمحور حول مواضيع تتراوح بين دونالد ترامب، والحرب على سورية وآفاق زواجه المقبل، موجهاً رسائل عديدة ذات أبعاد استراتيجية. الرّسالة الأولى كانت تطميناً لتركيا من خلال التّعهّد باحترام مصالحها في سورية وتقدير التنازلات التي تعتزم أنقرة تقديمها في هذا الملف. والرّسالة الثانية توجّهت إلى الدّاخل الروسي عبر إعادة التّأكيد على أهمية السلاح الصاروخي الاستراتيجي في الدفاع عن السيادة الروسية، وإظهار رضاه عن عمل حكومة رئيس الحكومة ديمتري ميدفيديف.
ثم انتقل إلى الدّخول في أسباب الثورة في فرنسا التي من الواضح، من وجهة نظره أنها ناتجة عن استياء جزء كبير من الفرنسيين من الأوضاع العامة في بلادهم.
أمّا الرّسالة الأهمّ فكانت للندن وواشنطن. بالنّسبة للندن فهو يرى أنّ العلاقة الروسية الانكليزية لا يمكن ان تستمرّ في ظلّ كلّ هذه التّوتّرات وأنّه ينبغي لهذه العلاقة أن تتحسّن ولو بشكل تدريجي مقدّماً نصيحة لرئيسة الوزراء تيريزا ماي تتلخّص بالاستجابة لإرادة الشعب البريطاني في ما يتعلّق بـ «بريكست». أمّا بالنّسبة للولايات المتحدة، فكان لافتاً استعمال الرئيس بوتين الاسم الأول للرئيس الاميركي في معرض إجابته عن الأسئلة المتعلّقة بالعم سام، مشيراً إلى ضرورة تنظيم لقاء بين الرّئيسين الرّوسي والأميركي. وبالرغم من الودّية الّتي ظهرت في بعض إجاباته حول أميركا إلا أنّه وجه انتقادات لسياسة نظيره الاميركي وتحديداً في ما يتعلّق بالانسحاب الأميركي من سورية ومدى جدّيّة أميركا في طرحها لهذا الانسحاب.
ختاماً نقول إنّه ما من شكّ أنّ وجه العالم سيكون مميّزاً على مقياس «سيّئ جدّا» لو أنّ الأحادية العالمية للولايات المتحدة الأميركية كانت لا تزال قائمة في عهد ترامب وقراراته الغير المدروسة. وما من شكّ أيضاً أنّ الأيام المقبلة ستحمل مفاجآت روسيّة عديدة لن تكون هدايا ميلادية للهيمنة الأميركية القاتلة. أما الهدية الأجمل لموسكو فستكون حورية تسلب قلب وعقل «داهيتها الأعزب».