قراءة في ثلاث ومضات للشّاعر أمين الذّيب

د. باسل الزين

تكمن مشكلة التّنظير غير المقرون بمجالات التّطبيق في الهوّة المفهوميّة الّتي تتأتّى بين القول والممارسة، أي بين ما ينبغي أن يكون وما يكون. وفي هذا الصّدد، تأتي ومضات الشّاعر أمين الذّيب لتقرن القول بالفعل، ولتشير إلى أنّ التّنظير لشعر الومضة ليس مفصولًا عن الكتابة، بل هو حصيلة تفاعل وتجريب بينهما، وذلكم ما سنحاول تبيانه من خلال دراسة جملة ومضات اختطّها الشّاعر على صفحات التّواصل الاجتماعيّ.

والواقع، إنّ اختيارنا هذه الومضات هو اختيار عشوائيّ غير منصبّ على غاية بعينها، لإيماننا بأنّ كلّ ومضة يكتبها إنّما تمثّل صدق ما يدعو إليه في خطابه التّنظيريّ بوصفه مؤسّس ورئيس ملتقى الأدب الوجيز.

– الومضة الأولى:

منذ التكوين

خطوتان تفصلانني

عن إدراك الله

طوبى لمن له عيد

أنا لا زلتُ أنتظر

نجمتي

تطرح هذه الومضة، في بنيتها، مُعادلتين اثنتين: معادلة البدء ومعادلة الصّير. فمن جهة يرى الشّاعر أنّ خطوتين تفصلانه عن إدراك الله منذ لحظة التّكوين. لكن لِم اختار خطوتين؟ ألم يكن أجدى به أن يُحدّد خطوة واحدة أو خطوات لامتناهية؟

الحقيقة أنّ اختيار الشّاعر لمفردة «خطوتان» ليس اعتباطيًّا وهو اختيار يرتبط ارتباطًا شديدًا بطاقة المفردة إيقاعيًّا وبجوهر الملاءمة بين الدّاخل والخارج معنويًّا. معنويًّا، يتّضح سياق الإدهاش وتقنيّة الصّدم من خلال جدليّة الإدراك واللاإدراك. فالشّاعر لا يرفض معرفة الله بيد أنّ النّجمة الّتي سترشده إليه ما زالت بعيدة إلى حدّ أنّها لما تومض في أفقه بعد ولم تُشِر إليه. وبعبارة أوضح، تتجلّى الخطوة الأولى في الاحتجاب من خلال انكسار حاجز التّواصل العامّيّ بينه وبين الله بدليل قول الشّاعر «طوبى لمن له عيد». وكلّنا يعلم أنّ العامّة تتلقّف العيد وتحتفي به، والشّاعر بدوره يُريد أن يحتفي بالعيد لكنّه لن يقبل الفرح على عواهنه أي إذا لم يكن مقرونًا بالفهم. وبالمقابل، يأبى الشّاعر أن يكون فهمه تسليميًّا، فهو بحاجة إلى المُعاينة والكشف المرئيّين لذا تراه قد اختار النّجم لينتظره في عمليّة تكريس صريحة للخطوة الثّانية الّتي تفصله عن الله. أمّا حديثنا عن الصّير، فذلك ببساطة لأنّ الشّاعر لم يُقفل النّهايات بل علّقها على انتظار وهنا مكمن الدّهشة. وبالنّظر إلى الطّاقة الإيقاعيّة للمفردات، يكفي أن نُحاول استبدال كلمة بأخرى أو أن نحاول إضافة مفردة أو إنقاص مفردة لنعلم من فورنا أنّ تجربتنا محكومة بالفشل. هذا التّماهي بين الدّاخل والخارج هو بالضّبط ما يُعطي الومضة قيمتها ويجعل طاقة المفردة تُجسّد الإيقاع الدّاخليّ للمعاناة من دون حشو زخرفيّ أو تنويعات إيقاعيّة فارغة ومجّانيّة.

– الومضة الثّانية:

هذا الصباح

رتّبتُ وجهي

لم تكن المرآة نقيّة

وحده الضوء

يبحثُ عن

مدى.

يحلو للبعض أن يخلط بين كثافة شعر الومضة والقصائد السّرياليّة. الكثافة في شعر الومضة تفترض الغموض والإبهام، لكنّها لا تفترض غياب المعنى. والواقع، أنّ الغموض في شعر الومضة هو انعكاس لتلاقح الذّات مع الموضوع، والقبض على اليقين العصيّ. وبتعبير أوضح، إذا كان الكشف في متناول الجميع، فأيّ براعة في الفضّ وأي قدرة في الافتضاض؟ وعلى المقلب الآخر، أيّ قيمة للنّصّ في إدهاشه إذا كان بإمكان القارئ أن يتلقاه بيسر تام من دون إعمال العقل والتّفكير؟ أليس شعر الومضة دعوة إلى ذرّ الرّماد عن المألوف والاعتياديّ وكشط الحجب التّقليديّة وإعمال الفهم للوقوف على ما احتجب؟

وبعد، تطرح هذه الومضة قضيّة وجوديّة بالغة الدّقّة وأعني تحديدًا مسألة السّلام الدّاخليّ، والانطلاق من الذّات نحو فهم الذّات. ولنلاحظ أنّ الشّاعر لم يقل رتّبت ثيابي أو صفّفت شعري، وإنّما انداحت العبارة منه تلقائيًّا: «رتّبت وجهي»، في مقابل غياب المرآة الجليّة. ومن المعلوم أنّنا لا نستطيع أن نرى وجهنا إلا من خلال مرآة أو ما يُشبهها، فكيف أمكن للشّاعر أن يُرتّب وجهه أي أن يؤمّن ما يكفي من التّجانس الجوّاني من دون مرآة تُريه ما احتجب عنه؟ الإجابة ببساطة: عن طريق الإيغال في الذّات بحيث يجري استبدال رؤية العين برؤيا العقل وبصيرته. والواقع، أنّ المعنى ما كان ليكتمل لو لم يلجأ الشّاعر إلى استعارة الضّوء ليكون رديف الظّلمة. فالضّوء هنا لا يعني الكشف، ربّما بحكم بداهته، لذا تراه أحوج ما يكون إلى الأمداء. أمّا الذّات، وبحكم احتجابها، فهي أحوج ما تكون إلى الإيغال في عمق أعماقها منفردة. ألم يقل كيركيغارد يومًا: «لكلّ ذات قدس أقداسها الّتي لا يجوز أن تلج إليها يد أجنبيّة؟».

– الومضة الثّالثة:

مَن يسكن الفجر

لا يزخرف الجدران!

تنطوي هذه الومضة على دعوة للتّحرّر مدهشة وآسرة. إنّها الدّعوة إلى التّخلّص من الأثقال الدّينيّة والأعراف الشّعريّة والتّقاليد الموروثة والعادات الموبوءة والأفكار المهترئة. إنّها دعوة للخروج من كهف أفلاطون ومن أوهام بيكون.

بتعبير أوضح، يرى الشّاعر أنّ البشر غدوا أسرى تهويماتهم أي أسرى ما تلقفوه وما درجوا عليه، لذا تراهم قد انزووا بين جدران الموروث ولم يسعوا يومًا إلى إحداث تغيير جذريّ، إذ جلّ ما قاموا به هو تزيين جدران زنازينهم وتلطيف معتقداتهم. في حين أتى الشّاعر الشّاعر لينقض كلّ ما تأسّس بعبارة واحدة تنطوي على إيجاز بليغ وكثافة هادفة ونعني: «مَن يسكن الفجر». إنّ سكنى الفجر هي سكنى الضّوء في بزوغه، وهنا تنوّع الدّلالة بين مقطوعة وأخرى. والضّوء هنا رديف الكشف، كما أنّه رفض الخنوع والخضوع، هو إيذان ببدء ثورة عارمة تجعل الذّات منطلق الكشف والفردانيّة مناط البحث في رفض صريح لكلّ أشكال العبوديّة، على اعتبار أنّ الامتثال لقوانين المجتمع وأعرافه هو خضوع، والتّسليم بالموروث الأدبيّ والشّعريّ خضوع. وبوجيز العبارة، يُمكننا أن نقارن ومضة أمين الذّيب مع ما سبق لنيتشه أن قاله في كتابه ما وراء الخير والشّرّ: «جاء الحمار جميلاً وقويًّا».

تلكم هي باختصار شديد بعض المندرجات التّجديديّة والمبتكرة الّتي ينطوي عليها شعر الومضة، وقد أمكن للشّاعر أمين الذّيب أن يقرن وبحقّ حقل التّنظير بحقل الكتابة، من دون أن نقع على هوّة تفصل بينهما. لكن هذا لا يعني أنّ الحلقة قد اكتملت، فالأدب الوجيز يؤمن بالتّجريب بالقدر نفسه الّذي يرفض فيه أيّ شكل مكتمل ومنجز ونهائيّ.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى