رواية «منذ ساعة تقريباً»… حرائق الشرّ تنطفئ به
لوريس فرح
لم تكن كعنوانها العريض «منذ ساعة تقريباً»، بل ساعات عدة مجبرة – رضخت للاعتكاف كي أتمم وأستفيق من حالة الخدر التي أوقعتني بها عن غير قراءة وكأني في شرَهٍ سال لعابه لمجرد الحلم بوجبة غنية لا تخلو تفاصيلها من مكوّنات التشويق والإثارة، كان هذا كفيلاً ليدفعني لقضاء يومي كله متوسلة الوصول إلى الخاتمة المكتنزة بالرسائل والمعاني والإشارات.
البلدة العاجزة، والمتاخمة كل عناوين للفقر والجهل والانغلاق الفكري خطّت بحدودها الصغيرة خطوطاً أكبر ما تكاد تعنون العالم العربي بأكمله كحال إسقاط.
مع رسالة وحيدة أخيرة تصل صبيحة أحد الأيام إلى مكتب البريد، لتبدأ عقارب الساعة دورانها نحو الحدث الذي يلتحف الغموض محتواه منذ أول لحظة إلى أن فض المكتوب عن خفاياه والتي تمحورت حول تبيان الألم الدفين الذي يعتمل مرسله وعن عقد الخوف والضعف والنقص التي ما فتأت تنهال من غير رادع على مستلمه.
كغيرها من الروايات، تناولت «منذ ساعة تقريباً» للفلسطيني ناصر رباح، مواطن الضعف والقوة وشريعة الغاب والتي لم تزل أقوى الشرائع مهما حاول القانون إعلاء صوته، حيث تقف بحيرة أمام حالات تعجز عن ردها إلى خانة الخطأ أو الصح.. الجريمة أو العدالة، الحقّ أم مغتصبه. كلها عناوين رغم تناقض مفاهيمها إلا أنها دمجت بطريقة مروّعة ورائعة غيّرت معناها. منير الذي ارتكب الكثير من جرائم القتل في القصة، لا يمكنك التنصل من قصة التعاطف معه وفي أحيان معينة قد تصرخ بملء روحك: بوركت أيّها الشجاع، على الرغم من أنه وعلى مدار الأحداث هو في عيون أهل البلدة لم يكنّى سوى بالشرير المخيف المزعج، ولكنك تقرأ ما بين السطور عكس ذلك تماماً، عندما يشفي غليلنا بإعلاء كلمة الحقّ وأخذ حقّه وحق زوجته بيده عندما وضع حداً أخيراً لقوى الشر في بلدته. هذه الشخصية «منير» ذات أبعاد عميقة جداَ، تحتوي شيئاً من النبل والشهامة والأمانة ما لم يكن عند شخصيات أخرى ربما نالت من الوضع الاجتماعي المستقر ما هو أفضل. كل طرق الضعف تؤدي إلى الألم، هذا كان العنوان الضمنيّ للبطلة «هالة»، الفتاة التي واجهت الفقر والإهمال بكل أشكاله، اللامبالاة من طرف أمها واللا مسؤولية من جانب أبيها وعلى الرغم من صغر سنّها إلا أنّها تسلّحت بالعلم كي تواجه هذه المعاناة وعدم الانحراف عن طريقها التي اختارتها ورغم المغريات التي تحسّست حلاوتها في حبّ هاني لها إلا أن عائلتها والفقر من جديد كانا لها بالمرصاد، حيث عادت إلى البيت يوما لتجد الفراغ المرعب، لدرجة إنها رأت لون الدهان تحول ضبابياً في غرفتها بعد أن باع والدها مكتبة جدها – الإرث العظيم الذي كان يمثل لها العالم بأكمله – جراء الحاجة والعوز، لنجدنا في مفارقة إجبارية لصور المثابرة والنجاح والانحراف الذي قادها إلى أحضان هاني بملء إرادتها، لتقع في لعنة المجتمع، المصيبة الأكبر من قصة اغتصابها، قصة نبذها من قبل أهلها ومدرستها والشارع.
دربها المنكسر بالذل واليتم ودرب منير المنبوذ من دائرة البلدة تقاطعا معاً عند نقطة ما، لتتواتر أحداث الرواية عالياً، العار، الفقر، النبذ، الخوف الذي انتهى بها زوجة لـ»منير» القاتل، لنقف أمام ما هو غير متوقع، كما أوحت لنا خيوط الرواية وهو أن «منير» وعلى الرغم من محاربة الجميع له حتى نفسه، نجد أنفسنا أمام شهامة الشاب وقوته، والتي لم تزل تفنّد تحت شريعة الغاب والبقاء للأقوى، إلا أنها هنا جاءت في مكانها، لتنتصر للحق، لكنه هاجس الخوف والشك الذي تلبس «منير» حول ما سيلحق به وبالجنين الذي تحمله «هالة» من عار والذي لا يدري إن كان منه أم لا.. الأمر الذي جعله يضيف «هالة» إلى قائمة جرائمه، حتى ولو عن طريق القتل غير العمد عندما دسّ لها في الطعام حبوب الإجهاض التي أودت بها، ليقف وقفة المرتعب أمام الألم والفراغ الذي خلفته هالة زوجته برحيلها. وأما عن العم «سلامة» والذي بدأت به قصة الرواية وانتهت، نجد أنه اليد التي ما لبثت أن كانت ستلف حبل المشنقة حول عنق منير بعد سلسلة من الأحداث بعد أن كشف سرّ «منير» عبر الرسالة، لكنه يقف ليراجع نفسه تحت يافطة «الشرطة في خدمة القانون» الذي ترك حميش يعيث فساداً في المجتمع بترويجه للمخدرات التي دمرت كل شيء ووحده «منير» وضع له حداً وأراح الناس من شره، منير وليس تبريراً للجريمة، لم يكن ذنبه سوى أنه لم يرد حياة تعيسة لطفلة اقل ما سيقال لها عندما تكبر، ابنة العاهرة التي ستواجه المصير اللعين الذي واجهته أمها من غير ذنب.. وهذا ما جعله يعدل عن فكرة تسليم الرسالة.
ذهب الكاتب إلى أكثر من مكان في الرواية وفرد خيوطاً كثيرة تعادل أكثر من حياة في الواقع، حيث أنه دوّنها تحت عناوين متسلسلة، «ناصر 1، ناصر2، ناصر3، ناصر4، ناصر5»، ليثير دهشة القارئ حين دمج خيوط ناصر مع خيوط قصة «منير» لتكون النهاية عند «ناصر5 «، حيث أجاد في جرنا نحو نهاية متميزة، مثيرة حد الدهشة، هذه عندما توّهنا بين واقعية الحدث والخيال، لنقف كقراء مصفقين له بحرارة لما قدم في مشهدها الأخير الذي أسدل به ستارة النهاية.
كاتبة سورية