بري وفرصة الطائف الوحيدة
غالب قنديل
منذ انطلاق تسوية الطائف يجد الرئيس نبيه بري نفسه في حالة لا تشبه أفكار شبابه الوطنية الجذرية المعادية للطائفية والمذهبية، وهو بحكم موقعه السياسي بات الممثل الأول لطائفة كبرى في معادلات النظام السياسي اللبناني القائم والمستمرّ رغم السقف المفتوح في اتفاق الطائف الذي كان بري من المصرّين عليه لمنع تأبيد النظام الطائفي.
الحق يقال إنّ الرئيس بري كان عشية مؤتمر الطائف الأكثر تشدّداً في المطالبة بتضمين الاتفاق نصاً صريحاً عن مرحلة انتقال قصيرة لتجاوز الصيغة الطائفية للسلطة، بل إنه تمسك بتضمين النص مبدأ إلغاء الطائفية وأبلغ ذلك يومها هاتفياً للنائب السابق زاهر الخطيب الذي كان ممثلاً لحلفهما الوطني وركز جهوده داخل المؤتمر في نقاط رئيسية بالاتفاق مع بري هي العلاقة المميّزة بسورية وعروبة لبنان والمقاومة وإلغاء الطائفية، وكان حارساً لهذه الأفكار مع رفيقه نجاح واكيم وعدد من زملائه في الصياغات النهائية للتسوية.
في سياق المؤتمر أوصى بري الخطيب بأن يحاول تقييد البند الخاص بإلغاء الطائفية السياسية بمهلة زمنية حتى لا يكرّر خصوم هذا التغيير كمين الميثاق كما فعلوا بعد عام 1943 بإفراغ الشعار من محتواه لتأبيد القسمة الطائفية، وبري كان بالأصل من قادة الحركة الطلابية والوطنية التي رفعت شعارات تغييرية تصدّرها مطلب إلغاء الطائفية.
هكذا ولدت مبادئ عملية الانتقال التي باتت في نص المادة 95 من الدستور وتكثفت بمضمونها في مبدئي تشكيل الهيئة العليا وتأسيس نظام التمثيل الشعبي الانتخابي المركب من مجلسي الشيوخ والنواب على ان يكون مجلس الشيوخ مكرّساً في تكوينه بالقاعدة الطائفية للتمثيل ومن خلال التوزيع الطائفي للمقاعد، بينما يُنتخب المجلس النيابي على أساس لبنان دائرة واحدة خارج القيد الطائفي وبالنظام النسبي، أيّ أن ينتقل البلد إلى مرحلة جديدة تقترب من الحياة الحزبية ومن صيغة الدولة المدنية اللاطائفية التي ذكّر بها رئيس المجلس قبل يومين.
المعادلة التي صاغها الرئيس بري في تعامله مع تسوية الطائف قامت على المشاركة في النظام والتذكير المستمرّ في مناسبات متلاحقة بمبادرات اتخذها فكانت يتيمة من داخل النظام وحاول ترجيح كفتها بمناسبات النقاش حول القانون الانتخابي وواجه صداً ورفضاً عنيدين من أهل النظام، لكنه ظلّ يكرّر التذكير بإحكام الانتقال من النظام الطائفي الذي تمسك بحصته منه وفقاً لصفته التمثيلية السياسية والطائفية، وكان يردّد على مسامع الجميع: إن أردتم بناء دولة حديثة فأنا أوّلكم ولنطبّق فوراً آلية الانتقال التي نص عليها الطائف، اما إذا كنتم متمسكين بصيغة التوزيع الطائفي فلن أفرّط بالحصة الشيعية التي أنا معني بها بحكم الموقع التمثيلي السياسي.
ليس من المصادفة أن يكون القوميون مؤخراً أول المرحبين وقد فرض عليهم تصاعد العصبيات في نظام الطائف قيوداً إلغائية رغم النسبية بفعل توزيع الدوائر استنساباً ومع استمرار التفصيل السياسي للدوائر الذي لازم النظام اللبناني منذ عهود الانتداب حتى اليوم.
يتطلع التغييريون لمبادرة رئيس المجلس من موقعه الدستوري والوطني ويأملون تطويرها إلى اقتراح صيغة إجرائية محدّدة لفكرته، وان يدعو إلى مناقشتها مع الكتل النيابية ومع الأحزاب والقوى السياسية، وينتقل بمشروع محدّد لترجمتها على حلقات حوار تمهيداً لوضعها على طاولة الحوار الوطني برئاسة فخامة الرئيس لمباشرة التطبيق بتشكيل أول هيئة عليا لإلغاء الطائفية وفقاً لنص الدستور ودعوتها لبلورة اقتراحات القوانين الخاصة بعملية الانتقال التي نص عليها الطائف انطلاقاً من نظام المجلسين.
لقد بلغ تفسّخ صيغة التقاسم الطائفي وعجزها عن إنتاج استقرار سياسي ذروته وبفضل التطبيق الأول للنظام النسبي رغم تشوّهاته ومظالمه وطائفيته باتت عملية التمثيل السياسي شاملة للجميع بلا استثناء وتلاشت جميع شكاوى الغبن والتهميش الطائفية.
الخطوة التي عرقلتها قوى النظام منذ ثلاثين عاماً خلافاً للدستور باتت مستحقة لانتشال البلد ونقله إلى مرحلة سياسية ودستورية جديدة واكثر استقراراً بدلاً من اندفاعه في متاهة خطيرة تعلو معها صيحات ومخاوف من انفجار كبير على وقع أزمة النضوب الاقتصادي والمالي ومع إفلاس النظام الاقتصادي الريعي ومظالمه الاجتماعية ومخاطره الوطنية ومن الطبيعي ان نتوقع من رئيس المجلس فكرته إلى خطوة عملية ممكنة تنهي استغراق البلد في أجواء تناحرية عقيمة وعبثية كلما «دق الكوز بالجرة» وهي تحمي دوام منافذ الضغوط والوصاية الأجنبية المناقضة لمصلحة البلد ولاستقلاله السياسي.
عضو المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع