د. طالب عمران لـ«البناء»: سورية مصدر كلّ الحضارات والمبدع الحقيقي هو الذي يهتمّ بالإنسان
حاورته: فاطمة الموسى
الخيال العلمي يشمل الإبداع والفكر غير المحدود بكل ما يُبدعه العقل. العقل العلمي خلق مجالات كثيرة. ففي داخل كل إنسان خيال يأخذه إلى عالم تصوّرات، والكثير من المكتشفات العلمية في تاريخ الإنسانية كان أساسها الخيال العلمي.
هل الحدس والخيال يقودان الإنسان؟
أسّس د. طالب عمران دكتوراه في المنطويات التفاضليّة والفلك مجلّة الخيال العلمي التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية منذ عام 2008، له نشاطات عدة في الصحافة المكتوبة مقالات أدبيّة واستشرافية وعلميّة وأدب الرحلات ، ولا يزال برنامجه الإذاعي «ظواهر مدهشة» الأشهر في حلقاته التي زادت عن الألف حلقة، إضافة إلى برامج لا تزال راسخة في الذاكرة مثل: «آفاق علميّة»، «العلم ومستقبل الإنسان»، «مرافئ الذاكرة» الذي حاور من خلاله نحو 90 من أهم المبدعين العرب أمثال: عبد الله عبد الدايم، سليمان العيسى، الياس الرحباني، دريد لحّام، عادل أبو شنب، عز الدين المدني، نهاد شريف، عمر الفرّا، أنطون كرباج، نذير العظمة، وسعد الدين وهبه، وله أكثر من مئة كتاب في العلم والخيال العلمي كروايات ومجموعات قصصيّة.
د. طالب عمران الذي أغنى المكتبة السورية والعربية بأدبه وخياله العلمي وثقافته، كان لـ»البناء» معه الحديث التالي:
بداية، حدّثنا عنك وعن المجالات المتعدّدة التي خضت غمارها بنجاح وتألق…
ـ بدأت منذ العام 1968، أي في حوالي العشرين من عمري، بكتابة مقالات علمية تختص بالفلك الذي كان يشدّني بشكل غير عادي، فقد كنت أقرأ الكثير من كتب الفلك وأنا فيزيائي رياضي أيضاً. هناك أشياء كثيرة في جعلتني مولعاً القراءة في سنّ مبكر. كنت أهرب من الألعاب، رغم أني كنت أتفوق على أقراني في الألعاب التي لها علاقة بالعقل وغير ذلك بسبب قراءاتي المتواصلة. بدأت في العام 1968 أنشر تفاصيل الطفولة ومحطاتها الكثيرة التي يمكن للإنسان أن يغرف منها ليقدّم إبداعه في ما بعد، والمعروف أنّ الطفولة لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان.
قراءاتي الكثيرة دفعتني إلى كتابة الشعر في البداية، ثم كتبت ثلاث مسرحيات للمسرح الجامعي في ذلك الحين المسرحية الأولى كانت عام 1971 بعنوان «طوفان الدم» قدّمها المسرح الجامعي من إخراج ياسر العظمة ثم أحمد مللي. أما الثانية فهي «رجال في الفوضى» عام 1972 من إخراج داود جلاجل، قدّمها المسرح الفلسطيني. وفي عام 1973 قدّمت مسرحية «أناس بلا ملامح» في مهرجان الفنون المسرحية في الجامعة، بطولة رشيد عسّاف وعبّاس النوري وزيناتي قدسيّة، وتتحدث هذه المسرحية عن الأمير بسطار الذي يمثّل الديكتاتوريات العسكرية التي أطاحت بالكثير من رموز النضال الذين كانوا في ذلك الحين.
كنت أكتب قصص الخيال العلمي ونشرت أوّل قصّة في عام 1968 في مجلّة الشرطة، وكان الراحل الكبير محمّد الماغوط يرأس تحريرها وقد استغربت سرعة نشرها. قال لي الماغوط يومها: «أنت تحلّق في سرب وحيداً ليس فيه سوى أنت. فهذا الأدب هو أدب المستقبل وأنت تملك تقنيّة الكتابة».
بعد ذلك تابعتُ نشر قصص الخيال العلمي وكنت مشرفاً على الصفحة العلمية في جريدة «البعث». في عام 1974 كتب القاصّ والناقد نصر الدين البحرة مقالاً عن أول قصص خيال علمي في سوريّة تحدّث فيه عن تجربتي المبكّرة في كتابة الخيال العلمي وبدأتُ بعد ذلك أتوسّع في نشر هذه القصص.
عام 1976 نشرت أوّل كتاب علمي «العالم من حولنا» في وزارة الثقافة وفي عام 1978 صدرت لي أول مجموعة قصص خيال علمي للأطفال بعنوان «كوكب الأحلام».
عام 1979 نشر لي اتحاد الكتّاب العرب
في دمشق أول رواية خيال علمي بعنوان «العابرون خلف الشمس»، وفي العام نفسه نشرت لي وزارة الثقافة مجموعة «صوت من القاع». وهكذا تتالت الروايات والكتب ومجموعات قصص الخيال العلمي ليصل عددها إلى مئة كتاب عام 2018 ترجم العديد منها إلى اللغات الفرنسيّة والإنكليزيّة والفارسيّة والإسبانيّة والألبانيّة والهنديّة.
العلماء الكبار كانوا يتخيّلون الاختراع
هل تعتبر أنّ الخيال هو مقدمة للإبداع؟
ـ العقل من دون الخيال لا يستطيع أن يبدع. الخيال مقدّمة لكل الإبداعات العلمية فأديسون كان يتخيّل المصباح الكهربائي قبل أن يصبح حقيقة، وبقية العلماء الكبار كانوا يتخيّلون الاختراع ويسعون في سبيل الوصول إليه. إذاً الخيال هو مقدمة للإبداع، بالتأكيد لا يمكن لمبدع علمي على الإطلاق أن يطبّق اختراعاً معيناً من دون أن يتخيله.
بماذا يختلف الخيال العلمي عن الأدبي؟
ـ الخيال الأدبي يمكن أن يدخل في الأسطورة والملاحم، ويمكن أن يدخل في قضايا كثيرة لها علاقة بواقع معين أي قصة حياة شخصية معينة أسّست فيما بعد لملاحم شعبية، مثل «ملحمة جلجامش» في سورية وملحمتي «الراميانا» و«المهاباراتا» في الهند و»الإلياذة» و«الأوديسة» عند الإغريق. كلّ هذه الملاحم فيها نوع من الخيال، وفي الخيال الأدبي الملحمي يستطيع الأديب أن يتخيّل ما يشاء..
هل يؤدي الخيال العلمي أحياناً إلى حالة هذيانية لا صلة لها بعلم أو بواقع؟ وما هي المحدّدات الناظمة للخيال العلمي ومفاهيمه؟
ـ هذا الكلام غير حقيقي على الإطلاق، وليس له علاقة بالواقع. هناك نوعان من الخيال العلمي، خيال علمي جاد له علاقة بمستقبل الإنسان. هذا الخيال يمكن أن نراه بشكل واضح جداً، في ما كتبه جول فيرن الذي تخيّل هبوط إنسان على القمر في روايته «رحلة إلى القمر» عام 1865 وفي عام 1969 في تموز هبط رائدا فضاء على القمر. تنبّأ جول فيرن بالغواصة والطائرات العملاقة قبل سنوات طويلة من ظهورها. وتنبّأ هربرت جورج ويلز في «حرب العوالم» بأشعة اللايزر قبل اختراعها بأكثر من نصف قرن، وتكلّم عن المشاكل التي ستعترض الإنسان في المستقبل نتيجة الطغيان الذي يسيطر على الناس. إذاً التنبؤات العلمية هي خيال علمي جاد.
أنا اكتب خيالاً علمياً جاداً أتحدّث فيه عن مستقبل، كرواية «الأزمان المظلمة» التي صدرت طبعتها الأولى في كانون الثاني 2003 قبل الخراب الذي بدأ في المنطقة بسنوات، وفيها تصوّر لقرن بدأت ملامحه في الحادي عشر من أيلول 2001 وعدّتها المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم «الأليكسو» أفضل رواية خيال علمي عربيّة عام 2009 وترجمها الدكتور محمّد الهادي عيّاد من تونس إلى الفرنسيّة.
تغييب الحضارة السورية
وماذا عن الحضارة السوريّة في هذا الإطار؟
ـ الحضارة السورية مظلومة. هذه الحضارة التي يقول عنها مؤرخ تاريخ العالم ويل ديورانت: «كل الحضارات نبعت من تحت إبط الحضارة السورية حتّى الحضارة المصرية «الصولجان الفرعوني» هو إنتاج سوري». الحضارة السوريّة مظلومة من الإعلام الذي يتجاهل الكثير من إبداعاتها. وهناك الكثير ممن سرقوا الآثار وباعوها لمتاحف غربيّة أو لأثرياء يهتمّون بأنتيكاتها ويضعونها في قصورهم للزينة.
سورية منطقة حضارات وإبداعات وأول رائد للخيال العلمي في العالم هو لوقيانوس السوري السميساطي، وهو من الذين اعتبرهم الغرب، لكن ترجم الاسم إلى الفرنسية وصار لوسيان دو سوميسات. لقد صوّبت هذا الأمر للدكتورة كوثر عياد الأستاذة في جامعة تونس، قلت لها هذا لوقيانوس السوري عاش في القرن الأول الميلادي لماذا تقولون إنه من الغرب؟ كما نشرتُ هذا الكلام في ما بعد في الغرب عن هذا العالم الذي قدّم الكثير من الإبداعات العلمية من بينها الكثير من قصص الخيال العلمي، واعترف الغرب الآن بأنه سوري.
الكثير من عمالقة الفكر والأدب تم تغييبهم بطريقة ما، وما يحدث الآن أيضاً أنّ المبدع مغيّب تماماً وهناك ما يُسمّى بمبدع السلطة الذي تُقدّم له الجوائز ويوضع في المقدمة.
مع الأسف الشديد الكثير من المفاتيح السورية غُيّبت، والكثير من الآثار السورية سُرقت ونُهبت وتعرّضنا لنوع من الاجتياح المرعب لهذه الحضارة. الحضارة السورية هي بلاد الشام وامتداد ما بين النهرين كلها امتدادات واحدة لهذه الحضارة السورية القديمة، البابليون لم يكونوا في منطقة بابل فقط بل امتدّوا أيضاً إلى مناطق كثيرة كلها مختلطة ويمكنني أن أقول إنّ كلّ حضارة هذه المنطقة بلاد الشام والرافدين، ولو تباينت التسميات هي حضارة واحدة. السومريون عندما أتوا إلى هذا العالم كانوا متفوقين بشكل غير عادي، والبابليون هم أول من اكتشفوا كروية الأرض وأول من وضعوا تقسيمات النهار والليل والسنة والأشهر، الإغريق استقوا من نبع الحضارة السورية نفسها. والأرقام التي نقول إنها هندية هي آراميّة، أي سورية، ذهبت إلى الهند وعادت إلينا فقلنا إنها أرقام هندية. القصد من كل ذلك أنّ المنطقة تتعرّض للاجتياح المتكرّر وغزو كنوزها الحضاريّة ومنابع إبداعها، من اجتياحات الرومان والفرس إلى هولاكو الذي ألقى الكتب والمخطوطات في مياه دجلة فأصبحت مياهه عكرة سوداء، حتّى الاجتياح الأميركي للعراق الذي فتح المجال لتدمير المتاحف والآثار القديمة وسرقتها وكنا نشاهد اللصوص في محطّات التلفزة ينهبون ويسرقون ويدمّرون الآثار أمام الجنود الأميركيين من دون أي ردّة فعل منهم، فالأمر لا يعنيهم.
المبدع الحقيقي هو الذي يهتمّ بالإنسان ولا يمكنه أن يخون نفسه، ربما يكون صمام أمان للحاكم وليس كاتباً يمتهن النفاق، فالكتبة المنافقون هم الكارثة.
الماسونية العالمية هي جزء من القوى النافذة في العالم بتسمياتها العديدة، وعدم الاهتمام بالعقل يسمح لهؤلاء بالنفاذ إلى الناس، لذلك يجب أن نثقف الناس بشكل حقيقي وأن نتعلم نحن الكتاب دائماً أن ننظر بعقل.
الجيل الجديد ليس مهتماً بالقراءة
في منظوركم ما علاقة القراءة بالثقافة ولماذا ابتعد الجيل الجديد عن عنها؟
ـ الجيل الجديد ابتعد عن القراءة بسبب الأتمتة. أنا لست ضد استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة على الإطلاق، لكنني ضدّ الفساد المفتوح في هذه الوسائل وهو بعيد كل البعد عن الثقافة التي يمكن من خلالها تطوير الأجيال الجديدة.
أسّستم في جامعة دمشق مشروعاً ثقافيّاً هو عبارة عن مجلة علمية، حدثنا عن هذا المشروع…
ـ أسّسنا في جامعة دمشق مشروعاً ثقافيّاً بدأ قبل نحو ست سنوات مجلة علمية اسمها «الأدب العلمي» وهي مجلّة شهرية علميّة ملوّنة تباع بسعر رمزي لنشرها بين الشباب وطلاّب الجامعة وتشجيعهم على القراءة التي غابت عنها أجيالهم. كما أصدرنا مجلّة «دوائر الإبداع» الفصليّة التي تبحث في قضايا الفكر والإبداع الأدبي، ولدينا بالتوازي مع المجلّتين سلسلة كتب علميّة تراثيّة تبحث في العلوم الحديثة والتراث السوري القديم. أصدرنا في الحضارة السورية نحو عشرة كتب نريد أن نصل من خلالها إلى هذا الجيل عن طريق العقل والعلم، فمن دون العلم لا نستطيع أن نثقف الإنسان، والطريق الوحيد لنصل إلى نتائج مهمة جداً على الصعيد المعرفي هو العلم وعندما نرى شخصاً لامعاً بعقله لماذا لا نشجّعه؟
الحضارة السورية، قدّمت الكثير من الإبداعات للبشرية، حتى حضارة روما قامت على المبدعين السوريين.
البعض يقول إنك متشائم في كتاباتك، لماذا؟
ـ يقولون إنني متشائم، والحقيقة أنني أكتب الواقع وما سيحصل ليس هذا بتشاؤم هذا ما سيحدث في المستقبل. قد أتشاءم إلى حدّ كبير ولكن إلى مرحلة معينة، وعندما كتبت «الأزمان المظلمة» وصلتُ بنبوءاتي حتى عام 2040 ثم فتحتها على التفاؤل بعد انهيار القوى العظمى التي تستبيح الإنسان ووجوده وكرامته المهدورة، ويمكن أن تظهر مفاجآت مذهلة في أية لحظة قد تغيّر وجه العالم.
أتشاءم عندما أرى الأجيال الجديدة التي نسي معظم أبنائها الثقافة ونحّوا الكتاب جانباً لحساب التسلية بالحاسوب بدلاً من الاستفادة منه، والفرق الرياضية العالمية والنرجيلة. لديّ رواية بعنوان «الأجيال الرقمية» تتحدّث عن هذه الأجيال التي تتحوّل تدريجياً إلى رقم أو آلة لا تفكّر. هذه كارثة، لذلك صرّحتُ أكثر من مرّة بأنّ على وزارة التربية أن تفرض على الطفل في المدرسة كتباً وقصصاً للمطالعة كمقرّرات إجبارية مرسّبة، فعندما يُجبَر الطفل على القراءة يلتصق بها من دون أن يشعر، ويبتعد عن ألعاب الكمبيوتر السخيفة والفضائيات السطحية. في أوروبا الناس يقرؤون في المترو والقطارات وفي كلّ مكان، لأنّ الإنسان بإمكانه أن يجد وقتاً للقراءة مهما كانت ظروفه صعبةً ومشاغله كثيرةً..
تكريمي الحقيقي من القرّاء
كُرّمت في بلدان عربيّة عدة، ووضعك بعض النقّاد الغربيين بين أشهر عشرة كتّاب خيال علمي في العالم، واحتفى بك المصريون في مؤتمر الخيال العلمي وأطلقوا اسمك على دورة المؤتمر، ماذا يعني لك ذلك؟ وهل كُرمت في سورية؟
ـ دور الأدب يكمن في وصف الأزمات وتحليلها والتعبير عنها. وسط هذه الأزمة التي نحياها، وقد امتدّ المتجمع الاستهلاكي طاغياً على الإبداع بكافة أشكاله الأدبية والعلمية والثقافية، أصبح المال هو الصانع للكتاب، وهم كتاب غير جادين، وكرّس المال شعراء أثرياء ليس لهم علاقة بالشعر، وربما إن وجدت في نتاجاتهم شيئاً من الإلهام فهو من صنع غيرهم. مبدعون اشتروا إبداعات نسبوها لأنفسهم. هي مشكلة كبيرة تمتد وتكبر كما تكبر وتتكاثر محطات الفيديو كليب لتخريب الأجيال الشابة حيث يسفح النفط لخدمة الزعماء والشيوخ وليس لخدمة التنمية والفكر والثقافة.
أشعر بالمسؤوليّة في الالتصاق بالناس وهمومهم أكثر، هذا هو قدري، وتكريمي في سوريّة كان عبر قراء كتبي ومقالاتي والمجلاّت التي أديرها وأكتب فيها ومن متابعي برامجيّ وحواراتي وهم كثيرون جدّاً.