ألاعيبُ السياسة تَسقُط أمام الاقتصاد المُتفجر
د. وفيق إبراهيم
يتصارعُ زعماء لبنان على مقعد وزاري من هنا ووظائف من هناك، بمواكبة أسوأ وضع اقتصادي يَمرّ فيه لبنان منذ الاستقلال في 1943.
الأزمة السورية أفقدته عاملين كانا يشكلان مركزية اقتصاده، السياحة والترانزيت اللذين كانا يغطيان مفاسد نظامه الطائفي.
ولم يسبق أن التحمت فيه كلّ مظاهر الانهيار الاقتصادي في مرحلة واحدة، لدينا دَيْنٌ عام يفوق المئة مليار دولار ومعدلات بطالة تصل الى 45 في المئة بين الشباب وعجز خطير في الموازنة وتضخم نأى بأسعار السلع عن إمكانات الناس، وكهرباء غائبة في معظم الوقت ومياه مقطوعة وخدمات عامة متنوّعة ومحتجبة.
وما يزيد الأمر سوءاً شبه الإقفال أمام حركة انتقال الشباب للعمل في الخارج.
فالخليج استعاض عن اللبنانيين بعاملين من جنوب شرق آسيا والهند بأسعار ضئيلة وكفايات عالية، وأفريقيا يغزوها الغرب، وأستراليا وكندا بعيدتان واصبحتا تضعان عراقيل امام انتقال العرب اليها بسبب الإرهاب المتفاقم بينهم.
لبنان اليوم لا يستطيع حتى دفع فائدة ديونه ولا تجد طبقته السياسية غضاضة في رفع فوائد ما تستلفه من المصارف الى عشرة في المئة وكيف لا وهي مالكة هذه البنوك. فزعماء الطوائف هم حكام لبنان وأصحاب المصارف او المستفيدون منهم ومالكو محطات التلفزة ومعظم وسائل الإعلام ورعاة المطارنة والمفتين والشيوخ ومنجزو الصفقات التي أفلست البلاد.
فمن يصدّق انّ هناك محاولات لتوسيع الحكومة الى 36 وزيراً لأربعة ملايين لبناني يمثلهم 128 نائباً وهؤلاء الوزراء والنواب يمتمتعون برواتب هائلة وامتيازات لا تصدّق من المال العام، ومن يصدّق أنّ راتب مدير إحدى المؤسسات العامة المغطاة من رئاسة الحكومة يصل الى خمسين مليون ليرة لبنانية، «أوجيرو»، هذا جانب من المشكلة لكن ما يرفع من حدة مرارتها هو استمرار القوى السياسية في أدائها السياسي على ما كانت عليه، فساد وهدر وقت ورحلات وصراع على توزيع مقاعد الحكومة المرتقبة وحقائبها، وكأننا نمرّ بمرحلة بحبوحة كاملة، وهي تعتقد أنها محمية بعنصرين: الانقسامات الطائفية في البلاد والغطاء الدولي الإقليمي الذي تعتقد أنه لا يزال يحميها من أيّ تبدل داخلي ويمنع عن لبنان الحروب الخارجية عليه.
فهل هذا صحيح؟
يجب الإقرار أنّ زعماء الطوائف استعملوا السلاح الطائفي ببراعة كوسيلة لإقناع إبن الطائفة بهم وإفهام الآخرين بأهميته.
لذلك كان هنا إصرار على منع اندماج فئات اللبنانيين بإقرار قوانين انتخابات طائفية تبالغ في تكريس انقساماتهم، وتحافظ على استمرارها طازجة لحين الطلب.
لقد كان المطلوب بالنسبة لقادة النظام الطائفي استمرار الطائفية في حالة وسطى بين الانفجار والبرودة، ولتأمينها يجري استخدام النظام الديني والتعليمي والإعلامي والحزبي، كأدوات في الخدمة إلى جانب الإمساك بحركة التوظيف في القطاع العام أساساً والخاص نسبياً، فتدفع الدولة رواتب منتسبين حزبيين أو موالين يداومون في مراكز الزعيم فقط.
ولأنّ هذه الحماية لا تكفي لجلب الاطمئنان للزعماء يرتبط هؤلاء بقوى إقليمية ودولية ترى فيهم فائدة لوضع البلاد في دائرة صراعاتها الشرق أوسطية.
فيجري هذا الارتباط على مستويين: طائفي من واحدة من جوانبه وجزء من الصراعات الإقليمية والدولية في جهات أخرى، لذلك فهو سعودي إيراني حيناً وإيراني تركي حيناً آخر وفرنسي في مراحل معينة، وينحو الى جذب روسيا الى لعبة النفوذ في لبنان. فهذا في خاتمة المطاف بلد العجائب والغرائب.
انّ هذين الدورين الداخلي والخارجي يجعل الزعماء يستشعرون بفوائض قوة لا تأبه للمعترضين، فقد تتركهم يفرغون انتقاداتهم للأوضاع وعندما تتلمّسُ رائحة الخطر من خطبهم ومسيراتهم تقمعهم بمجموعات «نخبة» مؤيديها تهاجمهم في الشوارع والأحياء.
لكن ما يجري في هذه الأيام يكاد يحطم العنصرين الحاميين للطبقة السياسية اللبنانية: ايّ الطائفية في الداخل وقوى الإقليم، فأهل الطوائف جياع يكفرون بكلّ شيء، ولم يعودوا يجدون أعمالاً لأبنائهم وأصبحت رواتبهم لا تكفي الربع الأول من الشهر.
فكيف يصمتون؟ كانت تنقصهم القيادة النقابية او الحزبية الداعية للتحرّك فاستعاضوا عنها بخدمات أدوات التواصل الاجتماعي مقلّدين أصحاب السترات الصفراء في فرنسا.
الوضع الداخلي اذاً مهيّأ لتحركات شعبية مخيفة تشمل كلّ الطوائف.
أما لجهة الإسناد الخارجي فالسعودية في أزمة الخاشقجي التي تكاد تلتهم دورها الذي أصبح خفيفاً، وإيران محاصرة وتواصل خفض موازنتها للتعامل مع الحرب الأميركية عليها.
لجهة فرنسا فدورها لا يزال محدوداً في الشرق الأوسط ويحتاج الى مرحلة طويلة.
كما أنّ التأثير «الإسرائيلي» على لبنان تراجع كثيراً بسبب تطوّر قوة حزب الله وهذا يشمل الدور الأميركي المعتمد على «إسرائيل» لإقناع لبنان.
هذه المعطيات تكشف إمكانية تحرّك تظاهرات ضخمة في لبنان تطيح بالنظام الطائفي، وتوفر ظروفاً مؤاتية لدولة مدنية هي الإنقاذ الوحيد من نظام طائفي يواصل تدمير البلاد غير عابئ بالمستقبل وملتهماً الحاضر، فهل هذا قريب؟
إن تشكيل حكومة تقليدية لن يكون أكثر من حبة أسبرين لمريض بالسرطان يحتاج الى جراحة مستعجلة ولا يمتلك عناصرها هذا النظام السياسي الموجود حالياً في لبنان.