قطرة عِطر مِن قارورة المُبدع الذي لا يُضاهى… جبران خليل جبران
د. فايزة حلمي
كتاب «جبران خليل جبران: حي»، لا يشبه أي كتاب كُتب عن الشاعر والكاتب والفنان اللبناني الأميركي، حيث قامت جومانة بو فخر الدين بجهد الحب هذا ورأيت المؤلف يجمع بجهد لوحات وصور فوتوغرافية ورسوم ومخطوطات، بالإضافة إلى أشياء وتذكارات يملكها جبران وعائلته وأصدقاؤه، واستغرقت العملية عامين ونصف العام وتطلّبت مساعدة مئتَي متطوعٍ، وتم تعيين المساعدات في الترتيب الزمني والتصنّف تحت تسعة عشر موضوعاً في كتابين مُكثّفيْن، جميع الصور المضمّنة في هذه الموسوعة المصغّرة مصحوبة بعروض ومقتطفات لا تقلّ عن 220 منشوراً.
«أنا على قيد الحياة مثلك وأنا أقف بجانبك، أغمض عينيك وألقي نظرة حولك، ستراني أمامك»، كانت هذه أشهر المقتطفات المقروءة.
يفتح الكتاب حياة جبران ويعرض للقارئ قوس قزح من الكلمات والأصوات والألوان والأفكار للالتهام أثناء استكشاف جمال كتاباته ولوحاته. ولد جبران في 6 يناير عام 1883، أثناء عاصفة ثلجية عنيفة في بلدة بشري في جبل لبنان موتاسارافيت في الدولة العثمانية وعندما أُبلِغ والده عن ولادة ابنه الأول أجاب: «أنا لا أريده ألقوا به إلى الثلج»، وفي سنّ الثالثة خرَج أثناء عاصفة ورفض العودة إلى المنزل وظلّ يكرّر: «أنا أحب العواصف، أنا أحبها».
بعد سنوات كتب جبران عن جمال العواصف الثلجية:
«أنا مريض مقيم في البيت وقلبي يتوق إلى تلك التلال والوادي، ولكن مِن الأفضل أن أبقى هنا وأعمل. اليوم نتوقع عاصفة ثلجية قوية أنتم تعرفون كم أحب كل العواصف، وخاصة العواصف الثلجية، أحب الثلوج، أحب بياضها، أحب سقوط الثلج وصمته العميق. أحب الثلج في قلب الوادي البعيد غير المعروف حيث تتلاشى رقاقات الثلج في ضوء الشمس متلألئةً لحَظات ثم تذوب وتتدفق بهدوء بعيدًا بينما تهمس أغنيتها. أحب الثلج والنار، كلاهما يأتيان من نفس المصدر».
وقد صرّحت باربرا يونغ التي عملت سكرتيرته في السنوات الأخيرة من حياته:
«كان هناك شيء ما في الرجل منذ الطفولة المبكرة، شغف بالعواصف… شيء ما فيه، كما قال تم إطلاقه وأطلق العنان له ووضعه بشكل رائع كعاصفة».
وإلى جانب الطبيعة، لعبت المرأة دوراً حاسماً في حياة وأعمال جبران ولم تكن والدته مصدر إلهامه الفني فَحَسْب، بل إنها أوجدت أيضاً جَوّاً طوّر نُضج ابنها، ورَعى شخصيته الودودة.
لَعِبَت العديد مِن النساء دوراً في حياة جبران، مثل مي زيادة، التي لم يلتقِ قط بها وتبادَل كلاهما رسائل عاطفية وكثيفة، اشتهرت عندما تم نشرها، ومع ذلك، فإن المرأة التي أثّرت أكثر على جبران كانت بلا شك ماري هاسكل. وقد خصص المؤلّف فصلاً كاملاً لهذه المرأة الاستثنائية، إنها لم تساعده مالياً فحسب، ولكنها أيضاً آمَنَت به وقدمت له المشورة عندما احتاجها، لم تُعتَبر هاسكل امرأة جميلة، وكانت أكبر بحوالي 10 سنوات مِن عمر جبران، لكنه أحبّ قلبها وروحها النبيلة.
«عندما أكون حزينًا يا عزيزتي ماري، أقرأ رسائلك. عندما يطغى الضباب على «أنا» في داخلي، آخذ إثنين أو ثلاثة من الصندوق الصغير وأعِد قراءتها، يذكّرُونني بنفسِي الحقيقية، يجعلونني أطلّ على كُل ما هو مرتفع وجميل في الحياة، كل واحد منا، يا ماري العزيزة يجب أن يكون له مكان للراحة في مكان ما. والمكان الذي استقرّت فيه روحي هو بستان جميل حيث تعيش معرفتي بك».
إن كتاب «جبران خليل جبران: حي» يزخر بلوحات ورسوم نادرة ورائعة. في الواقع، أمضى جبران المزيد من الوقت في الرسم أكثر من الكتابة. في «خليل جبران: فنان لا يُضاهَى»، كتب المؤلف يوسف حبيب الحلو «استخدم جبران ألوانًا مختلفة في كتاباته، لكن ليس في لوحاته التي كانت كلمات في الرسم والمعنى في الشكل.. كان يُعبّر عادة عن فِكْرة مَا مِن خلال الرسم ويعلّق عليها بالكتابة».
رسم جبران معظم الأشخاص المشهورين الذين قابلهم، بمن فيهم الطبيب النفسي السويسري كارل يونغ والنحات الفرنسي أوغست رودان والممثلة الفرنسية سارة برنارد التي جلست لِيرسم صورتها في 18 فبراير 1913، وبعدها كتب جبران رسالة روحية إلى صديقته هاسكل: «الرسم الذي صنعته يوم أمس، رغم أنه لا يُظهر شيخوختها هو نجاح كبير، ولكن إذا كنت سَأمُر بنفس العملية مع بقية الرجال والنساء العظماء فقد أتخلّى عن الفن وأصبح دبلوماسيًا! أرادت أن أجلس على مسافة بحيث لا أرى تفاصيل وجهها، لكنني رأيتها، لقد جعلتني ألغي بعض التجاعيد حتى أنها طلبت تغيير شكل فمها! أعتقد أنني فهمتها بالأمس وتصرّفت بناء على ذلك، وربما هذا هو السبب في أنها أحبّتني قليلاً!
رابطة القلم
لَعب جبران أيضًا دورًا رئيسيًا في إنشاء الرابطة القلميّة، رابطة القلم، كان أول مجتمع أدبي عربي أميركي وكان هدفه هو إحياء الأدب العربي، اقترح جبران تدابير جذرية لإحياء الأدب باللغة العربية، قائلاً: «إذا كان معنى أو جمال فِكرة، يتطلّب كسر قاعدة، فأكسرها… وإذا لم تكن هناك كلمة معروفة للتعبير عن فكرتك استعر أو ابتكر واحدة… وإذا كانت صيغة جُمْلة تقف في طريق تعبير ضروري أو مفيد، أبتعد عن صيغة الجملة».
بينما ننتقل إلى الصفحات القليلة الأخيرة من هذا العمل الاستثنائي، يقول جبران: «هذه قصتي. كيف يمكن أن أنهيها، في حين أنّها في الحقيقة لا تنتهي؟».
مستشارة نفسية وكاتبة/ مصر