القمة الاقتصادية العربية قضايا وتساؤلات

زياد حافظ

قمة الملوك والأمراء والرؤساء العربية حول التنمية الاقتصادية المرتقبة أمر هام لأسباب عدّة. السبب الأول هو الموضوع بحد ذاته أي التنمية الاقتصادية التي تستوجب اهتماماً من قبل النخب العربية الحاكمة والمراقبة والمعنية بالشأن العام وذلك لمعالجة القضايا الملحّة كالبطالة خاصة عند الشباب، والجهل، والأمية على سبيل المثال. أما السبب الثاني فيعود إلى السياسات التي يمكن اتخاذها من قبل المسؤولين والتي تستدعي مناقشة ومراجعة ونخصّ بذلك سياسات النيوليبرالية والخضوع لإملاءات المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. والسبب الثالث هو التساؤلات التي تفرضها قضية انعقاد القمة والتي سنقاربها في هذا العرض.

أعدّ المؤتمر القومي العربي مذكّرة إلى تلك القمة يقارب من خلالها قضايا عدّة بدءاً من المنطلقات وثوابت الأمة كما يراها، فتقييم المشهد الحالي الاقتصادي، إلى نقد ونقض السياسات المتبّعة، وأخيراً إلى رؤية مستقبلية وبعض التوصيات التي تجيب على الأولويات المطروحة. غير أن ذلك لا يُعفينا من مسؤولية إبداء تساؤلات هي قضايا بحد ذاتها حول القمّة والظروف التي تواكب انعقادها المرتقب.

فالتساؤل الأول هو كيف يمكن عقد تلك القمّة وسورية خارجها، علماً أن المذكّرة كانت قد أشارت إلى دور سورية الاستراتيجي. فعن أي تنمية اقتصادية يتكلّم عنها الملوك والأمراء والرؤساء وسورية ليست في صدارة المشروع التنموي؟ فبغض النظر عن البعد السياسي لتلك المسألة، وهو بعد استراتيجي، فإن موضوع التنمية سيشمل حتماً إعادة إعمار سورية والعراق واليمن وليبيا وكل الأقطار التي تضرّرت من الحروب التي شنّتها دول الحلف الأطلسي وجماعات التعصّب والغلو والتوحّش بدعم وتمويل من بعض الدول الخليجية وبغطاء جامعة الدول العربية التي اختطفتها تلك الدول. وإن لم يكن ذلك الأمر أي التطرّق إلى إعادة الإعمار فهذا إخفاق كبير يقلّل كثيراً من قيمة القمة. لذلك كيف يجوز أن تكون سورية خارج تلك القمة التي ستفقد حتماً جدواها؟ أضف إلى ذلك، فإن الدور المحوري الاستراتيجي لسورية بغض النظر عن ملفّ إعادة إعمارها، فهو دور استراتيجي بمرتبة شرط ضرورة وكفاية لجدوى ونجاح أي مشروع تنموي. إذاً لا بد من دعوتها وإلاّ لفقدت القمة معناها ودورها وإذا استحالت دعوتها قبل موعد الانعقاد المقرّر فلتؤجّل حتى يُحسم وجود سورية وعودة جامعة الدول العربية إلى صوابها فعروبتها!

التساؤل الثاني هو موضوع إمكانية تنمية عربية وفلسطين ما زالت محتلّة. فهل من الممكن أن يحصل أي نوع من التنمية وفلسطين خارج الإطار التنموي؟ فذلك الإطار يبدأ بدعم صمود الشعب الفلسطيني وفكّ ارتباطه باقتصاد دولة الاحتلال واتكاله على المساعدات الدولية التي تخضع لتقلّبات في المزاج السياسي للدول المانحة وفي طليعتها الولايات المتحدة. فالابتزاز هو قاعدة سياسة المساعدات وتجب مساعدة الشعب الفلسطيني على التخلّص من ذلك الابتزاز. فالتنمية العربية تبدأ من هنا. فما أنفق على دمار سورية حيث وصل الإنفاق إلى أكثر من 130 مليار دولار وفقاً لتصريح أحد المسؤولين العرب عن تلك الحرب، فيمكن إنفاقه على دعم ذلك الصمود! فذلك الدعم ممكن وواجب في آن واحد وليس هناك من أعذار يمكن قبولها.

التساؤل الثالث هو حول سياسات التنمية المتبعة والتي ما زالت تُعتمد في إطار الأقطار العربية. التجربة تدّل على أن الدولة القطرية فشلت في تحقيق التنمية المطلوبة وإن كانت هناك بعض الإنجازات العربية التي حاربها الاستعمار القديم والجديد والعولمة، وذلك ضمن النزعة الضيّقة التي ترسمها حدود القطر التي فرضها المستعمر. هذا يعني أن نجاح أي مشروع تنموي يجب أن يتمّ في إطار التكامل والتشبيك الاقتصادي بين الدول العربية تحصيناً له من جهة ولتخفيض كلفته من جهة أخرى والاستفادة من وفورات الحجم التي يحقّقها السوق العربي الأكبر. وهذا ما هو غائب حتى الآن لأسباب سياسية وليست اقتصادية وتقنية. ونذكّر هنا أنه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي تمّت الموافقة على سلسلة قرارات كالسوق العربية المشتركة على سبيل المثال التي ظلّت حبراً على ورق وغير قابلة للتنفيذ بسبب المزاج المتقلّب للحكومات العربية التي تستسهل فرض العقوبات على بعضها البعض غير مكترثة للنتائج التفتيتية لتلك السياسات. فأول خطوة لتحقيق أي تنمية عربية هو العزوف عن سياسة العقوبات التي تؤذي الشعوب والتي ما زالت قائمة وخاصة في ما يتعلّق بسورية واليمن والتي تعيق التبادل التجاري العيني بين الأقطار والاستثمار وتنقّل اليد العاملة. كما أن الخطوة الثانية تكون في تطبيق القرارات المتخذة والتي ما زالت إما حبراً على ورق أو ضعيفة الفعّالية. الخطوة الثالثة هي رفع القيود على حركة اليد العاملة بين الأقطار العربية كشرط للتنافس والتكامل الاقتصادي وضرورة مكافأة العمل بشكل منصف وليس على حسابه لمصلحة رأس المال.

التساؤل الرابع هو حول مدى استقلالية القرار السياسي والاقتصادي العربي في ظل التبعية للغرب بشكل عام وخاصة للولايات المتحدة بشكل خاص. كما أن التبعية لإملاءات المؤسسات الدولية المانحة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي أو البنك الأوروبي تقلّل من جدّية القرارات العربية في تحقيق التنمية التي يجب أن تخدم مصالح الشعوب العربية فقط. فهذه «الإرشادات» تتذرّع بـ «الإصلاح الاقتصادي» ليست إلاّ شروطاً لفتح الأسواق العربية للسلع والخدمات الغربية ولكن قبل كل شيء لتهيئة مشاريع الخصخصة التي هي الإطار القانوني لنهب الثروات الوطنية بذريعة «عدم كفاءة» القطاع العام و«فعّالية» القطاع الخاص. وخطورة مشاريع الخصخصة تكمن في وضع المرافق الاقتصادية الاستراتيجية لكل بلد تحت سيطرة القطاع الخاص الذي عليه أن «يستعين» بـ «شريك استراتيجي» خارجي من الشركات العملاقة المتعدّدة الجنسية أو التابعة للدول المانحة. بالمقابل تخلق تلك الخصخصة أوليغارشية من المحسوبين على النخب الحاكمة حيث مصالحها تصبح نقيضة لمصالح الشعوب ما يجعل التدخّل الخارجي ممكناً بذرائع مختلفة. فهذا «شرط» المساعدة الخارجية للدول العربية: سلّموا قطاعاتكم الاستراتيجية. والأخطر من ذلك هو دعم قطاع المؤسسات المالية والمصرفية لتلك المشاريع فتساهم من حيث تدري أو لا تدري الأرجح الاحتمال الأول! في كشف الاقتصاد الوطني تجاه الخارج وخاصة الغرب الذي لم يكن في يوم من الأيام صديقاً للعرب. فالقوّامة للمؤسسات المالية يكون على حساب القطاعات المنتجة أو ما تبقّى منها كما يحصل في لبنان. فالقطاع المالي هو فقط لخدمة القطاعات الإنتاجية وليس قائماً بحدّ ذاته إلاّ بمقدار ما يقدّم من قيمة مضافة للاقتصاد الوطني والقومي.

التساؤل الخامس يعود إلى جدوى السياسات النيوليبرالية المدفوعة من المؤسسات الدولية والدول الغربية لتحقيق أي تنمية. حتى في الدول الغربية حيث بدا واضحا أن السياسات النيوليبرالية التي تدفع إلى تقليص دور القطاع العام، بمعنى تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، بحجة «الترشيد» في النفقات العامة وبحجة الوصول إلى «توازن» مالي، أدّت إلى موجة من التقشّف والتراجع الاقتصادي والاضطراب الاجتماعي ما زلنا نراه على شاشات التلفزيون. والاضطرابات في الأردن مثل واضح لفشل تلك السياسات التي ما زالت الحكومة الأردنية مضطرة إلى تطبيقها لتلقّي المساعدات المالية. فمشكلة الأردن لن تحلّ إلاّ في إطار تكاملي وتشبيكي وانخراطي كامل مع دول الجوار أي سورية والعراق ولبنان. لكن هل القرار السياسي لذلك التحوّل موجود؟ وينطبق الحال على كل من لبنان والعراق ومصر والجزائر والمغرب وتونس والسودان.

التساؤل السادس يعود إلى مفهوم التنمية في دول سمتها الاقتصادية الريع والطفيلية وتوزيع الريع. فما هو مفهوم التنمية الاقتصادية عند النخب الحاكمة في الوطن العربي؟ قد يكون مفهومهم مختلفاً عن مفهومنا غير أننا لا نرى أي أفق لتنمية في ظل الاقتصادي الريعي والطفيلي. فلا بد من العودة إلى ثقافة الإنتاج والمجهود المقرون به والتي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في دول كمصر والعراق والجزائر على سبيل المثال. وهذه عملية أبعد من قرارات سياسية. فهي تعود إلى مراجعة الثقافة السائدة في الدول بعد تطبيق نظرية «الانفتاح» المشبوه و«التحرير» الاقتصادي الملتبس، وليست هذه العملية بالسهلة. كما أن التنمية لا تُختزل بالبعد الاقتصادي بل تشمل البعد الاجتماعي والثقافي معاً. فهل التنمية فقط النمو عندهم وعن أي نمو يتكلّمون؟

التساؤل السابع يعود إلى معالجة البطالة بشكل عام وعند الشباب بشكل خاص. فما هي رؤية النخب الحاكمة في هذا الموضوع؟ كما أن الأمية الموجودة في العديد من الأقطار العربية تعيق أي مشروع تنموي جدّي. فهل هناك من خطة لمحو الأمية في أقل من عقد من الزمن؟

التساؤل الثامن يعود حول دور التخطيط المركزي ودور القطاع العام في دفع العملية التنموية. السياسات النيوليبرالية التي اتبعت بعد «الانفتاح» أدّت إلى تراجع وحتى إلغاء التخطيط المركزي في العديد من الدول تماهياً مع إرشادات المؤسسات الدولية. فالسوق الحر، الذي يتغزّل به الليبراليون وهم يمكن برهنته، ولكن في بحث منفصل، لن يكون البديل عن التخطيط المركزي. غير أن التخطيط المركزي يجب أن يستفيد من آليات السوق وقوانين العرض والطلب ولكن ضمن المعايير التي تفرضها المصلحة الوطنية والقومية وليست مصالح بعض النخب الحاكمة ومَن يدور في فلكها.

أما التساؤل التاسع فهو يعود إلى تلازم التنمية الاقتصادية مع الإصلاح السياسي. فلا تنمية دون مشاركة مكوّنات القطر والتفاهم مع الأقطار العربية المجاورة. فالإصلاح السياسي يعني في المرتبة الأولى بناء الدولة على قاعدة المواطنة وليست على قاعدة المحاصصة بين الطوائف والمذاهب والأعراق أو القبائل التي تتكوّن منها المجتمعات العربية. نموذج الطائف في لبنان وإفرازات العملية السياسية في العراق وما يريده الغرب عبر مبعوثه ستيفان دي ميستورا هو إقامة الدولة الرخوة التي تكون دائماً ضعيفة ومستندة إلى الخارج. فلا إصلاح سياسي دون إلغاء منطق المحاصصة على قاعدة الطوائف أو المذاهب أو الأعراق أو القبائل، بل على قاعدة التنوّع في السياسة وإلا لاستحالت المساءلة والمحاسبة. فالشعب يحاسب ولكن إذا كانت قاعدة المساءلة والمحاسبة الطائفة أو المذهب أو العرق أو القبيلة لقام الاقتتال الداخلي. لذلك نسأل هل هناك من مشروع إصلاحي سياسي يواكب التنمية المطلوبة وما هو مضمونها؟

في هذا السياق، نعتقد أن سورية هي الدولة التي ستقوم على قاعدة المواطنة والتي ستنقلها إلى كل من العراق ولبنان. وهذا المحور لدول المواطنة سينتقل إلى سائر الدول العربية. من هنا نفهم دور سورية المحوري والاستراتيجي في مشروع التنمية العربية لأنه مقرون بمشروع سياسي نقيض لمشروع بعض دول الخليج التي هيمنت على القرار العربي وأدّى إلى نتائج كارثية.

كاتب وباحث وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى