الانسحاب الأميركي من سورية: تأجيل وتخبّط

سورية وانسحاب القوات الأميركية وسرعة تراجع الرئيس دونالد ترامب لمنح مزيد من الفرصة الزمنية، تحت ضغط القيادات العسكرية، أشرت على بلوغ الصدام الداخلي مرحلة متقدّمة، لا سيما بعد «إقالة» وزير الدفاع واستقالة مدير مكتب موظفي البيت الأبيض.

قرار الانسحاب وما رافقه من تعديل معلن في السياسة الأميركية، سيكون موضوع التحليل، والذي اعتبره البعض مؤشر على تخبّط بارز في آلية صنع القرار نتيجة الانكفاءات الميدانية الجارية، لا سيما في كلّ من اليمن وسورية، والمتغيّرات المحلية والدولية.

قرار الحرب لمن؟

قرار شنّ الحرب، او التورّط العسكري، دائم الحضور في الجدل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، اللتين تسعى كلّ منهما إلى قضم ما تستطيع من نفوذ لصالحها، مع إدراكهما الوثيق بأنّ للرئيس صلاحية مطلقة شنّ «حروب محدودة» زمنياً «… شريطة إطلاع الكونغرس خلال 48 ساعة وألا تتجاوز العمليات العسكرية 60 يوماً بدون موافقة الكونغرس وأن يتمّ بعدها الانسحاب خلال 30 يوماً».

صوّب معهد كارنيغي بوصلة النقاش فور انعقاد الدورة السادسة عشر بعد المئة للكونغرس الجديد مشيراً إلى أنّ من بين القضايا الملحة على جدول الأعمال ينبغي إثارة مسألة «متى وأين يجب نشر القوات العسكرية الأميركية المدهشة.. إذ أنّ الدستور يمنح صلاحيات إدارة الشؤون الخارجية لكلا الكتلتين المتصارعتين، الكونغرس والرئيس» مطالباً السلطة التشريعية باستعادة دورها في «الإشراف الشرس» عليها. واستدرك بالقول إنه من الطبيعي أن يقلق البيت الأبيض كونه لا ينظر بعين العطف لأيّ دور «إشرافي» للكونغرس وليبقي على تمركز صنع القرار بيده. وحث البيت الأبيض على «الترحيب بدور شراكة تامة مع الكونغرس في قضايا تمسّ الأمن القومي والذي من شأنه تشذيب السياسات المتبعة وسبل تطبيقها معا».

سورية

أكد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الشائع لقناعات ومواقف كبار السياسيين الأميركيين لتعثر استراتيجية الحروب «سنة تلو الأخرى» والتي بدأت «… لمحاربة الإرهاب عام 2001 وحروب مستمرة في الخليج منذ عام 2003 والتخبّط في سورية منذ عام 2011». واعتبر المعهد جولة الاتهامات المتبادلة حالياً على خلفية إعلان الرئيس ترامب انسحابه من سورية بأنها «ليست أكثر سذاجة أو عُقماً من الجدالات السابقة حول ملامح السياسة الأميركية نحو سورية.. وتخلو من أيّ مضمون حقيقي، كما سابقاتها، حول طبيعة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والخليج منذ عام 2001». وأضاف أنّ مستويات النقاش انحدرت تدريجياً بحيث أضحت «بلا هدف استراتيجي واضح، وفشلت في التحكم بأيّ من القضايا المتعدّدة التي تسهم في بلورة استراتيجية أميركية في المنطقة».

سخر معهد أبحاث السياسة الخارجية من قرار الانسحاب من سورية «المفاجئ».. والذي تمّت بلورته على عجل بين طواقم وزارتي الخارجية والدفاع ثمرة لمراكمة الأخطاء». وجادل في فرضية صواب القرار الرئاسي «حتى لو جاء نتيجة أسباب لا يدركها الرئيس ولن يتحمّل مسؤولية الاستشراف» لتداعيات القرار.

اتهم معهد كاتو دائرة المستشارين الضيقة المحيطة بالرئيس ترامب «بكبح وإلغاء تطلعاته الواقعية» التي بادر بها بدءأ من إعلانه الانسحاب من سورية واكبه إعلان آخر بتقليص عدد القوات الأميركية في أفغانستان الى النصف، تقريباً. وأوضح أنّ الفريق المعارض للقرارين معظمه من «صقور المحافظين الجدد بتأييد من الليبراليين من أنصار الحملات العسكرية الإنسانية.. مما يقوّض المصالح الأميركية في البلدين».

استعرض معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تداعيات قرار الانسحاب من سورية «من وجهة نظر إسرائيل.. وحرص المسؤولين فيها على عدم توجيه انتقاد علني للرئيس ترامب بيد أنّ ما يضمرونه تحت السطح تميّز بعدم الرضى والقلق والرغبة في استثمار الخطوة لما قد يبنى عليها من إيجابيات». وأوضح أنّ الاتصالات المكثفة التي أجراها بنيامين نتنياهو مع «الرئيس ترامب هاتفياً، ولقائه وزير الخارجية مايك بومبيو على هامش لقاء البرازيل، واستضافته لمستشار الأمن القومي جون بولتون استثارت بمجملها ضمانات أميركية علنية حول أمن إسرائيل». وأضاف أنّ بعض كبار القادة السياسيين خفف من غلواء إعلان ترامب بالتأكيد على تواضع التواجد الأميركي هناك وغير مؤهّل لمواجهة التقدّم العسكري لإيران». واستدرك بالقول إنّ تلك المروحة المتعدّدة من ردود الفعل «لا تعكس كامل الحقيقة».

وفي استعراض موازٍ اعتبر معهد واشنطن جولة وزير الخارجية مايك بومبيو المكثفة في المنطقة قد تمّ الإعداد لها «قبل إعلان» الانسحاب، وهو يرمي «للترويج وتفسير قرار الرئيس بأننا في طريق الخروج من سورية لأصدقاء الولايات المتحدة». وأوضح أنّ سورية بالنسبة لتلك الدول لا تشكل أولوية بل «التصدي لنفوذ إيران ونشاطاتها العسكرية» هناك.

إيران

أعرب المجلس الأميركي للسياسة الخارجية مرور الذكرى السنوية الأولى على الاحتجاجات الشعبية في إيران بأنها دليل على «استمرار هادئ للقوى المناوئة للثورة الإسلامية والتي استطاعت تحويل مطالبها إلى حركة تتحدّى شرعية النظام.. رغم تجاهل وسائل الإعلام لها». وأوضح أنّ المطالب «المحقة» للمحتجين تجد صداها في تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد «فمؤشر التضخم في ارتفاع، ومعدل التضخم السنوي وصل لنحو 40 .. بينما أقرّ البنك المركزي الإيراني بمعدل تضخم يفوق 50 خلال السنتين الماضيتين». وخلص بالقول إنّ تجديد الولايات المتحدة للعقوبات على إيران تلعب الدور الرئيس «بيد أنّ حقيقة الأوضاع الداخلية أسوأ مما قد تعترف بها السلطات».

قرار رئاسي بالانسحاب من سورية نال شبه إجماع رافض من قبل الأقطاب السياسية الأميركية المتعددة، واكبته ضغوط مكثفة على الرئيس ترامب أسفرت عن «تراجعه» مؤقتاً وإبطاء الوتيرة بتمديد المهلة الزمنية المطلوبة.

بيد أنّ الأمر كشف عن خروج الخلافات العميقة في صنع القرار الأميركي إلى العلن، عزّزتها الرسائل والتصريحات «المتضاربة» لعدد من كبار المسؤولين أظهرت مدى «عدم الانسجام» بين مختلف مؤسسات الدولة لعلّ أبرزها كان «تعهّد» مستشار الأمن القومي جون بولتون بعدم مغادرة القوات الأميركية سورية «ما دامت القوات الإيرانية خارج حدود إيران». أتبعه الرئيس ترامب بتصريح مناقض خلال أيام معدودة دفاعاً عن قراره بالانسحاب بأنّ «إيران تستطيع أن تفعل ما تشاء» في سورية.

تلك الرسالة وغيرها، واكبتها استقالة وصفها لاحقاً ترامب بما يشبه الإقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، دفعت يومية «واشنطن بوست»، الخامس من الشهر الحالي، القول بأنها «… تعكس صورة التقلبات الدراماتيكية التي تطبع سياسة ترامب الخارجية، مما يدفعنا الى التساؤل عما إذا كان كبار مستشاري الرئيس ينفذون سياساته أم أنهم يتبعون أجنداتهم» الخاصة.

كما سلّطت الصحيفة الضوء على «أجندة بولتون.. لاستخدام سورية ورقة ضغط على إيران، من ناحية، طمعاً في نفض يديه من تحمّل مسؤولية قرار شنّ الحرب» حين اتخاذه.

وشرعت الإدارة باحتواء ردود الفعل الدولية الرافضة قيام أبرز أقطابها، وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتن، ترؤس وفود رسمية جالت على عدد من العواصم الإقليمية بغية «طمأنة» المخاوف من تداعيات انسحاب أميركي.

في المقابل، لم يكترث العديد لتصريحات الإدارة الأميركية منذ مطلع العام المنصرم تشير فيها إلى عزمها الانسحاب قريباً من سورية، وطلبت مشورة عدد من المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في بلورة القرار الرسمي، مما ينفي اتهام البيت البيض بالمفاجأة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تصريحات وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، بالتزامن، قبل نهاية العام المنصرم فحواها أنّ الرئيس ترامب «لم يصادق على خطة أميركية موسعة لمواجهة إيران في سورية».

«شعبية» الرئيس ترامب كانت أحد الأسباب التي حثت فواصل المؤسسة الحاكمة على تأييد قرار الانسحاب «ولو بشروط»، ومن ثم الانقضاض عليه عززها تراجع حدة تصريحات المسؤولين، لا سيما داخل الحزب الجمهوري، عقب صدور نتائج استطلاعات للرأي، 8 الشهر الحالي، تشير الى تأييد أغلبية من الأميركيين قرار الانسحاب من سورية وافغانستان، 56 ، ومعارضة ضئيلة لا تتعدّى 27 .

الانسحاب لا يعني الخروج النهائي

غموض يكتنف حقيقة قرار وإعلان الانسحاب، والذي بدأ على قدم وساق منذ مطلع الشهر الحالي، لا سيما مع إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن إرسالها مزيد من «القوات البرية» لسورية «لتأمين الانسحاب» إلى القواعد الخلفية في العراق، كما يعتقد، أبرزها قاعدة عين الأسد الجوية التي يرجح أن توازي أهمية قاعدة «باغرام» الأميركية في أفغانستان.

قيادة «قوات التحالف الدولي» الذي يضمّ 73 دولة وجهت رسالة إلى الدول المشاركة، 19 الشهر الماضي، يوم إعلان الرئيس ترامب قراره، بالتأكيد على «ضرورة مواصلة التحضيرات للمرحلة المقبلة من الحملة» بالرغم من القرار الأميركي «سحب 2200 من جنود القوات الخاصة الأميركية»، وفق توصيف يومية «كريستيان ساينس مونيتور»، 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

الحضور العسكري الفرنسي في سورية يأتي في المرتبة الثانية للولايات المتحدة، من ناحية الأهمية والدور المرسوم لها، إذ يتواجد «ما لا يقلّ عن 400 جندي من القوات الخاصة» في سورية، إضافة لأعداد أخرى من القوات البريطانية والاسترالية والنيوزيلندا وآخرين، يقدّر عددها بنحو 1000 عسكري من مختلف الاختصاصات. عند احتساب عديد التشكيلات المسلحة من مخزون المقاتلين الذين تشرف عليهم القوات الأميركية، لا سيما في قاعدة التنف جنوبي سورية، ترتفع الأعداد الى ما بين 8000 الى 10000 شخص.

من بين المشككين في حقيقة الانسحاب الأميركي من سورية، رغم إعلان الرئيس ترامب، كانت صحيفة «نيويورك تايمز»، 7 كانون الثاني/ يناير الحالي، بالإشارة الى تضمين شروط لقرار الانسحاب، كما دلّ عليه تصريح لجون بولتون خلال زيارته تل أبيب مؤكداً بأنّ القوات الأميركية «ستبقى في سورية حتى يتمّ القضاء على بقايا تنظيم داعش». وأوضحت أنّ «بولتون ومسؤولين كبار آخرين في البيت الأبيض يقفون وراء حملة تجري خلف الكواليس لإبطاء مفعول قرار ترامب.. عبر تضمين عبارة انسحاب مشروط» من سورية.

بدورها أكدت يومية «واشنطن بوست»، 7 كانون الثاني/ يناير الحالي، أنّ التطورات الميدانية في سورية تشير إلى أنّ الانسحاب الأميركي لن يتقيّد بفترة زمنية محدودة، وإنما «سيكون مفتوحاً إلى حدّ ما». وذهبت أبعد من ذلك بالاشارة إلى هوية المسؤولين الكبار الذين يعرقلون عملية الانسحاب منهم «وزير الخارجية مايك بومبيو، مستشار الأمن القومي جون بولتون، والمبعوث الرئاسي الخاص لسورية جيمس جيفري» مشيرة إلى تصريحات مماثلة تؤكد هدف التواجد العسكري الأميركي في سورية بأنه «لا يقتصر على محاربة داعش بل يشمل التصدي للنفوذ الإيراني في سورية».

بل صرّح وزير الخارجية عشية قيامه بجولته في عواصم المنطقة بأنّ «الحملة الأميركية لمحاربة النفوذ الإيراني ستظلّ مستمرة حتى في حال انسحاب القوات الأميركية من سورية».

بالتزامن الاعلامي أيضاً، كشفت يومية «وول ستريت جورنال»، 7 كانون الثاني/ يناير الحالي، عن محتوى ما في جعبة الوفد الأميركي لأنقرة برئاسة مستشار الأمن القومي جون بولتون ووضع شروط جديدة على النفوذ التركي طمعاً في حماية التشكيلات الكردية المسلحة، وبرفقته «خريطة ملوّنة» أعدّها عضو الوفد جيمس جيفري تحدّد فيها مناطق النفوذ الممنوع لتركيا الاقتراب منها، والتي «تشبه اتفاقية سايكس – بيكو» القرن المنصرم.

يشار إلى أنّ «الشروط» المستجدة في خطة بولتون وفريقه لم تكن عنصراً أو مكوناً أساسياً من مكونات خطة الرئيس بالانسحاب مما دفع الرئيس ترامب إلى تفنيد ما تناقلته وسائل الإعلام الأميركية بشأن تركيا، مؤكداً على نشرها «تقارير تعوزها الدقة في ما يتعلق بالنوايا الرئاسية حول سورية.. سياستنا لا زالت على ما هي عليه، سنخرج من سورية وفق وتيرة مناسبة، وفي الوقت عينه الاستمرار في قتال داعش…»

استراتيجية المرحلة المقبلة

سارع وزير الخارجية مايك بومبيو للقاء «حلفاء» واشنطن في المنطقة وإطلاعهم على الخطوط العريضة للسياسة الأميركية وتوجهاتها المقبلة، قوامها الاستمرار في محاربة إيران وتقليص النفوذ التركي، وأداتها تشكيل حلف أمني عنوانه مواجهة إيران بمسمّى «التحالف الاستراتيجي»، تجديداً لمقولة روّجت لتحالف الناتو العربي سابقاً.

مهّد بومبيو الأجواء بعنوان مضلل لكلمته «قوة من أجل الخير: أميركا تستردّ قوتها في الشرق الأوسط»، مبشراً بتوجه «جديد» يرضي غرائز عواصم الخليج بالتركيز على استمرار محاربة إيران وإيلاء دور أكثر فعالية لتلك الدول في سياق ركائز استراتيجية المرحلة المقبلة، والإعداد لما بعد الانسحاب الأميركي، جزئياً من أفغانستان.

اقتصرت جولة بومبيو على دول الخليج والأردن ومصر، ومن ثم العراق لاحقاً، مؤكداً فيها على انّ «الانسحاب من سورية قرار لا رجعة فيه». بيد أنّ غياب «التسوية للقضية الفلسطينية» كان من أبرز القضايا مما اعتبر بأنّ المشروع الوحيد عند الإدارة هو ترتيب التحضيرات لـ «صفقة القرن»، بطيّ القضية برمّتها وتسريع وتيرة التطبيع الرسمي مع «إسرائيل».

نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى