سباق بين اندلاع الانتفاضة الثالثة ووأدها

رامز مصطفى

« التراكم الكمّي يؤدّي إلى تغيير جوهري»، قانون يصلح أن يكون أداة القياس في مناقشة حالة الجدل التي يثيرها الكثير من المحللين والمراقبين والصحافيين، حول ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من تصاعد لأعمال المقاومة، في الضفة الغربية ومدينة القدس. والتي تأثرت بها أراضينا الفلسطينية في العام 1948، بعد أن أقدمت الشرطة «الإسرائيلية» على إعدام الشاب الفلسطيني خير الدين حمدان رمياً بالرصاص في قرية كفر كنا. في مشهد يستحضر من الذاكرة القريبة، ما أقدمت عليه مجموعة من المستوطنين الصهاينة التي قتلت حرقاً الشاب المقدسي محمد أبو خضير.

وقد وصف البعض الهبة الشعبية، على أنها حراكات احتجاجية لم تتطور بعد إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة، والبعض من هؤلاء يرى فيها مقدمات تسير حثيثاً نحو الانتفاضة الثالثة، والبعض الآخر يجد فيها أنها انتفاضة استكملت شروطها. وآخرون وجدوا فيها أكبر من هبة شعبية وأقلّ من انتفاضة. والقاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً، أن ثمة متغيّراً هاماً قد طرأ على مشهد الجمهور الفلسطيني المحتقن، الذي لم يعد يقنعه ما آلت إليه حال الحقوق الفلسطينية من تبديد على يد المحتل «الإسرائيلي» ومستوطنيه الذين يستبيحون أرضنا ومقدساتنا في وضح النهار، وبالتالي السلطة ومراهناتها العبثية وتردّدها وتلكؤها في اتخاذ خطوات سياسية وديبلوماسية وقانونية جريئة ومؤثرة في مواجهة حكومة نتنياهو وما سبقها من حكومات.

ولعلّ الأخطر إصرار السلطة على التمسك بالتنسيق الأمني مع الاحتلال وأجهزته الأمنية. وعليه فإن الجمهور الفلسطيني لم تعد تُقنعه سياسة الركون إلى ما ستأتي به المفاوضات وهي في مجملها وعود خادعة وكاذبة، وفي مقدمتها الدولة الفلسطينية العتيدة، وإن في حدود الأراضي المحتلة في العام 1967 في إطار ما بات يُعرف بحلّ الدولتين وفق شروط «إسرائيلية»، من أخطر الاعتراف بيهودية الدولة. تلك الآمال والتطلعات التي بنى عليها الفلسطيني الكثير قبل 21 عاماً، أي منذ «اتفاق أوسلو» المشؤوم في العام 1993، هذه الآمال آخذة في التلاشي، لأنها كما وصفها المستشرق الصهيوني «داني روبنشتاين» حين قال: «إنّ صورة حدود عام 1967 آخذة بالتلاشي». وجاء إقرار رئيس حكومة السلطة الفلسطينية السابق الدكتور سلام فياض، بأن «رؤية منظمة التحرير في مبدأ اللاعنف تعرّضت لهزيمة منهجية وباتت غير مجدية بنظر الرأي العام الفلسطيني».

يمثل هذا الإقرار وما سبقه من عشرات التصريحات والمواقف للعديد من أركان السلطة والقيادة في رام الله، ومن أبرزهم الدكتور عريقات ونبيل شعث، بما فيهم رئيس السلطة السيد محمود عباس. هو الدليل الحسّي والملموس على ما يعاينه ويكابده الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال وممارساته، وبالتالي شكلت هذه التصريحات والمواقف الرسالة الأبلغ إلى أن لا أفق أمام خلاص هذا الشعب في نيل حريته وتقرير مصيره واستقلاله في ظل استمرار الاحتلال وإجراءاته التعسفية، التي طالت كلّ ما وصلت إليه يداه في الاستيطان ومصادرة الأراضي والتهويد ونهب المياه، والاعتقالات والاغتيالات وحرق الممتلكات ودور العبادة الإسلامية والمسيحية، وتدنيس المساجد وتمزيق المصاحف على يد عصابة تدفيع الثمن، وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية بعشرات الحواجز والنقاط العسكرية والجدار العازل الذي باعد بين العائلات والأسر وأبناء الحي والقرية الواحدة، وربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاديات الكيان، وتحويل الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد استهلاكي، قائم على أساس المساعدات والمنح والهبات مما يجعل السلطة خاضعة للابتزاز السياسي من قبل الدول المانحة وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية. ناهينا عن تفشي حالة البطالة وارتفاع مستوياتها تحديداً بين الشباب. بالإضافة إلى الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة براً وبحراً.

الحديث حول الهبة الشعبية في الضفة والقدس، يستوجب بالضرورة الأخذ بالظروف الموضوعية والذاتية المتصلة مباشرة بالأوضاع الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية سواء في الضفة المحتلة والقدس، أو غزة المحاصرة. والتي بالإضافة إلى ما تقدم، فإن حالة الإحباط واليأس التي تطبع المشهد الجماهيري الفلسطيني، قد وصلت إلى مستويات مرتفعة من الاحتقان، الأمر الذي يتعذر معه العودة إلى الوراء من أجل البناء مرة جديدة على وعود المفاوضات من سراب وأوهام، لا يمكن معها أن يحقق الشعب الفلسطيني أياً من آماله أو تطلعاته، أو في مستقبل يتمكن من خلاله العيش بأمان وسلام على أرض وطنه كسائر شعوب العالم الذي نال حريته واستقلاله وقرّر مصيره بيديه. ومردّ ذلك وقبل القول إنّ هناك تخلياً وحالة نكران وتنكّر للقضية الفلسطينية وأبنائها، من دول نظام رسمي عربي أو إسلامي في مجمله. علينا الاعتراف أنّ الحالة التي تعيشها وتمرّ بها الساحة الفلسطينية على مستوى منظمة التحرير والسلطة والفصائل. والتي من أبرز تجلياتها استمرار حالة الانقسام والحرب السياسية والإعلامية بين حماس وفتح التي حوّلها هذا الانقسام إلى قبائل وعشائر، على رغم العديد من اتفاقات تنفيذ المصالحة، والتي لم يُطبّق منها شيء سوى ما يخدم للأسف الشديد طرفيْ الانقسام. وليس آخرها حكومة الوفاق الوطني التي من المؤكد وفي ظلّ تجدد الردح بين حماس وفتح على خلفية التفجيرات الأخيرة التي شهدتها غزة في الأيام الأخيرة. وقد كتب الدكتور أحمد يوسف القيادي في حركة حماس مقالة وصف فيها تجدّد هذا الردح بسؤاله: «ما الهدف من وراء هذا الردح الذي يتمّ تبادله بوقاحة بين فتح وحماس؟» مؤكداً أنه «كلما تعقدت أمورنا السياسية وتعاظمت احتقانات الشارع، خرج علينا من الناطقين الإعلاميين والقياديين في فتح وحماس من يحاول تبرير العجز، وذلك بتحميل الطرف الآخر مسؤولية انسداد الأفق. واعتباره متواطئاً لإجهاض أية إنجازات يمكن أن تتحقق. وفي النهاية، لا هذا جاء بالفرج ولا ذاك، ويدفع الشعب المسحوق الثمن، لأنّ قياداته لا تُحسن حتى كيف تتفق أو تتوافق». وبالتالي لا يُخفى على أحد حالة العجز التي تطبع الفصائل الأخرى في مواجهتها لطرفيْ الانقسام وهو ما يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني. والسبب أنّ هذه الفصائل ارتضت أن تكون مع كلّ اتفاق بين حماس وفتح مغيبة أو على هامش هذه الاتفاقات. والمؤسف أنّ الحسابات الضيقة لها قد أوقعتها في ضعف التأثير على مجريات الأوضاع على الساحة الفلسطينية، وهي التي تملك حيثيات ومواقف مشهود فيها. وبالتالي لها وقع التأثير على الشارع الفلسطيني الذي توجه لها الاتهامات أيضاً، في ما تعيشه الأوضاع الفلسطينية من حالة تردي وتراجع.

هناك إمكانية في تشكيل القوة الثالثة في الساحة الفلسطينية تأخذ على عاتقها دفع الطرفين إلى الالتزام بمقتضيات المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، في ظلّ ما تواجهه القضية الفلسطينية من تحديات كبرى. أما الكيان الصهيوني ومع ما تقدم، فإن الحكومة «الإسرائيلية»، والأحزاب والتيارات في الكيان فهي توظف ما تشهده وتعيشه الأوضاع الفلسطينية من حالة تردّ وانقسام، في الإسراع نحو حسم الصراع والمعركة بالمعنى الديمغرافي والتاريخي والثقافي والديني، وتحديداً في مدينة القدس والمسجد الأقصى فيها، حيث الادّعاء الزائف والأكذوبة الكبرى التي لا سند تاريخيا أو دينيا لها، على اعتبار أنّ إعادة بناء الهيكل الثالث ستقوم على أنقاض المسجد الأقصى بعد هدمه. وتأتي مواقف المجتمع الدولي المحابية للكيان، والآخذة على شأن الولايات المتحدة الأميركية حامي الكيان «الإسرائيلي» من المساءلة عن جرائمه وممارساته وتفلته من الالتزام والانصياع إلى شرعة الأمم المتحدة وقراراتها الدولية، التي لطالما اصطدمت في معظمها بالفيتو الأميركي الحاضر على الدوام من أجل إحباط أية محاولة أممية في تذنيب وتحميل «إسرائيل» وقادتها مسؤولية ما ترتكبه من ممارسات وجرائم بحق الفلسطينيين. ويأتي تخلي النظام الرسمي العربي والإسلامي في معظمه عن مسؤولياته تجاه القضية وأبنائها، ليُكمل مشهد البؤس والإحباط وما يعانيه الشعب الفلسطيني من استفراد «إسرائيلي» به وعلى كلّ المستويات، وفي كلّ العناوين. وخاصة الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.

هذه الظروف الموضوعية والذاتية قد شكلت الدافع لدى جموع الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وأعماره، نحو هبة شعبية تشهدها مدينة القدس والضفة الغربية، تأخذ في بعض تجلياتها شكل الانتفاضة، من خلال تطوّر أعمال المقاومة، من دعس وطعن للجنود والمستوطنين الصهاينة. وما إطلاق النار على رئيس حملة «بناء الهيكل» في الحرم القدسي الحاخام «يهودا غليك»، ومحاولة اغتياله على يد الشهيد المقاوم معتز حجازي، إلاّ التدليل على أنّ الأوضاع في الأراضي الفلسطينية آخذة في تصعيد المواجهة مع العدو الصهيوني وجعل احتلاله مكلفاً لا مريحاً. هذه الهبة التي حذرت منها وزارة ما تسمى بالداخلية «الإسرائيلية» في تقرير لها، عازية الأسباب إلى ما تشهده المفاوضات من حالة ركود وشلل. وبأنّ اندلاع انتفاضة ثالثة أصبحت مسألة وقت. الأمر الذي دفع قادة الكيان وفي مقدمتهم نتنياهو إلى تحسّس خطواتهم وإجراءاتهم في الضفة ومدينة القدس، وبالتالي انقسام الآراء والمواقف بين مكوّنات القيادات في الكيان من سياسية وأمنية وعسكرية وحتى دينية. التي وصفها البعض في الكيان أنها انتفاضة، على غرار الانتفاضتين في العام 1987 وعام 2000. وهذا ما أكد عليه «ديفيد بيرل رئيس المجلس الإقليمي غوش عتصيون «حين قال إنّ تواصل عمليات الدهس من قبل الفلسطينيين يثبت دون أدنى شك أننا في خضم انتفاضة ثالثة. وقد صدر القرار للمؤسسة العسكرية «الإسرائيلية» من أجل وضع الدراسات والخطط لما أسمته «خطة عمل مفترضة» بهدف التعامل مع احتمال اندلاع الانتفاضة الثالثة. وجميع الدراسات والخطط نابعة من قناعة واحدة هي كيفية القضاء على هذه الانتفاضة، ومن ثم تبديد أحلام الفلسطينيين، ومنعهم من إمكانية تحقيق أية مكتسبات قد يحققونها من وراء التظاهر والقيام بأعمال المقاومة وتصعيدها. فرئيس «غوش عتصيون» ديفيد بيرل دعا نتنياهو ويعالون للضرب بشكل حاسم هذه الانتفاضة ومن يقف ورائها بأقسى درجات الحسم والقوة. وهي أي «إسرائيل» وإلى جانب العمل على الاستعداد لمواجهة الانتفاضة الثالثة، تعمل على الاستعداد السياسي والإعلامي وحتى النفسي في معركة مواجهة الانتفاضة والمنتفضين الفلسطينيين. وهناك في الكيان من يقلل من أهمية ما يجري لأنّ رئيس السلطة لا يزال يتمسك بالتنسيق الأمني، والأجهزة الأمنية في السلطة ستمنع تمدّد هذه الهبّة لكي تتحوّل إلى انتفاضة. وهم أي «الإسرائيليين» يذكرون أنّ رئيس السلطة أبو مازن معني بالتهدئة لأنه لا يؤمن بخيار الانتفاضة بحسب ما صرح إلى القناة العاشرة العبرية قبل أيام.

الأوضاع السائدة تدلل على الزحف الفلسطيني نحو الانتفاضة، عندها لن يتمكن أحد من وقفها لا نتنياهو ولا رئيس السلطة الذي سيجد نفسه عاجزاً عن العمل في ظل تعنت الجانب «الإسرائيلي» في تقديم أية ورقة من شأن رئيس السلطة أن يوظفها في تحسين صورة السلطة أمام الجمهور الفلسطيني. وجميعنا لا يزال يذكر كيف رفضت «إسرائيل» الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين. وما الاجتماعات واللقاءات التي ستجمع رئيس السلطة والوزير الأميركي جون كيري في عمان، إلاّ محاولات لقطع الطريق على هذه الانتفاضة ووقف الانفجار الفلسطيني قبل حدوثه بشكل شامل ووأدها في مهدها، وعندها يتحمّل من بدأ في محاصرة الفلسطينيين وخنقهم مسؤوليات أعماله وأفعاله. ومن ركب البحار باحثاً عن كرامة وحرية مهدورة ومستباحة، لن يتوانى عن فعل أي شيء في سبيل كرامته وحريته وتقرير مصيره واستقلاله على أرض وطنه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى