أوروبا وروسيا… هل انتهت صلاحية اتفاقية هلسنكي؟

عامر نعيم الياس

1/8/1975 في العاصمة الفنلندية هلسنكي، مؤتمر للأمن الأوروبي حضره زعماء 35 دولة، بينها الولايات المتحدة وكندا، نتجت عنه اتفاقية سُمّيت «اتفاقية هلسنكي»، ويطلق عليها الأوروبيون «الوصايا العشر»، احتوت على مبادئ تنظّم العلاقة بين دول أوروبا في شقّيها الشرقي والغربي، واعتبرها بعض المراقبين يومذاك نزوعاً من جانب القوتين العظميين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، للتخفيف من حدّة الحرب الباردة بينهما.

وفي مبادئ الاتفاقية التي نظّمت أسساً جديدة للأمن والتعاون الأوروبيين، نلحظ التركيز على ضرورة احترام وحدة الدول الأوروبية وسيادتها وسلامة أراضيها، فضلاً عن فضّ النزاعات بين دول القارة بالطرق السلمية، وضمان حقوق الأفراد، وضرورة ضمان عدم تغيير الحدود الدولية في أوروبا، وهو مؤشر واضح على تكريس واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية. فما الذي يجري اليوم؟ ألا يؤشّر الحديث المتزايد عن عودة الحرب الباردة إلى انتهاء صلاحية اتفاقية هلسنكي؟ ألا يحمل التوجه الأوروبي لتعزيز العقوبات على روسيا رغبةً في إعادة صوغ المشهد الأمني في أوروبا؟ ألا يحاول الخطاب الروسي الحالي تصحيح المسارات التاريخية السابقة حتى ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي؟

بيار روسلان، نائب رئيس تحرير صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، طالب في مقال، «بإعادة تشكيل الهوية الأمنية الأوروبية وفق المعطيات الجيوسياسية الجديدة من أوكرانيا إلى القرم إلى بوتين». الواضح ألا شيء بإمكانه وقف التصعيد بين موسكو والدول الغربية مجتمعة، فالصراع بين الطرفين يأخذ أبعاداً جيوسياسية تعجز أمامها أيّ دبلوماسية أو اتفاقات موقّتة. فمقابل ما دعا إليه نائب رئيس تحرير «لوفيغارو»، يتوجب العودة إلى الخطاب الروسي الذي يشكل أساس تحليل الموقف الحالي في أوروبا. ففي الوقت الذي تعتبر فيه النخب الأوروبية ضمّ شبه جزيرة القرم نقطة تحوّل في منظومة أوروبا الأمنية، ترى روسيا أن خرق اتفاقية هلسنكي بدأ مع ضمّ كوسوفو، وتفتيت يوغوسلافيا، إذ انتهكت الحدود المتعارف عليها، وتم الاعتداء، واستُخدمت القوة العسكرية لفضّ النزاعات في إحدى الدول الأوروبية، كما أن الثورات الملوّنة في المحيط الحيوي لروسيا وفي الجمهوريات السوفياتية السابقة ساهمت في إعادة صوغ المشهد الأوروبي على أسسس مختلفة تخدم توسّع الناتو شرقاً على حساب روسيا وأمنها القومي. وهو أمر لا يمكن السكوت عنه، فالغرب يعمل على تطبيق بنود اتفاقية هلسنكي بشكل انتقائي، وهذا لا يناسب الامبراطورية الروسية التي تحاول النهوض على يد فلاديمير بوتين الذي عاد وأكد خلال خطاب ضمّ شبه جزيرة القرم أنّ «انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوسياسية في العصر الحديث».

إن الحديث عن عودة الحرب الباردة على لسان ميخائيل غورباتشوف الرجل الذي وضع المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي، وشارك في إسقاط جدار برلين قبل 25 سنة، له عدد من الدلالات التي يدركها الأوروبيون جيداً. فالرجل، وفي خضمّ حديثه عن عودة الحرب الباردة، رمى مسؤولية ما يجري على الغرب الذي «عاد مرةً أخرى إلى سباق التسلّح»، وعلى الأطلسي الذي «يتوسع شرقاً في الأراضي السوفياتية السابقة». موقف يعكس توجه النخب الروسية إلى إعادة تصحيح مسارات التاريخ، لا على مستوى مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل ما يتجاوز هذا الانهيار بعقود، ولعل في ضمّ شبه جزيرة القرم، والطرح المتكرّر لكبار المسؤولين الروس مشروع إعادة صوغ الأمن الأوروبي، ما يؤشر إلى تبنّي القيادة الروسية الجديدة وجهة نظر بعض الاستراتيجيين الروس الذين وصفوا اتفاقية هلسنكي بأنها «وبال على الاتحاد السوفياتي ساهمت بتقويض دوره ثمّ انهياره».

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى