هل يُعالَجُ السرطان بالأسبرين؟
د. وفيق إبراهيم
مهرجان لقاءات طوائفية متتابعة تبحث كلّ قوة من مكوّناته عن وسائل لتعزيز أدوارها الطائفية طبعاً، في إطار إعادة إنعاش نظام مريض، وذلك بالمزيد من ضخّ أوكسجين مذهبي معادٍ في العمق لتطور المجتمعات والتاريخ ولا يفيد إلا مؤقتاً.
هذا الاستنفار للجناح الغيبي الديني من نظام الطوائف يكشف عن خطورة المرحلة التي نتعرّض لها، هناك انسداد سياسي كامل يتبدّى على شكل عجزٍ عن تشكيل حكومة، لكنه أعمق من هذه المسألة البسيطة، يكفي أنّ هذا النظام أوصل البلاد الى تناقض هائل بين نمو لا يتجاوز النصف في المئة سنوياً مقابل تطور الدين العام الى أكثر من أربعة في المئة سنوياً.
تصوّروا الفارق الذي حدث في العشرين عاماً المنصرمة بين دين عام ازداد ثمانين في المئة مقابل نمو لم يصل الى عشرة في المئة، وهذا استتبع انسجاماً في السياسات الخليجية والأميركية في بلد تتعدّد ولاءاته الاقليمية حتى داخل البيت الواحد.
يكفي انّ هذا النظام أوصلنا الى حروب أهلية عدة 58 و75 وجعلنا لقمة سائغة للعدو الإسرائيلي قبل مرحلة 82 2000 والمال الخليجي وللسياسات الأميركية الغربية.
حتى أنّ السؤال الأساسي الذي يتبادر الى الأذهان هو من أين بإمكان بلد قليل الإمكانات والحيلة كلبنان تأمين مئة مليار دولار لسداد ديونه التي يتحدث عنها حاكم المصرف المركزي وكأنها كمية بسيطة بالإمكان ابتلاعها.
يبدو أنّ المطلوب منه تسكين هموم اللبنانيين بالتحايل على الأرقام وتقسيمها وتجزئتها بشكل لا يستطيع المواطن أن يفهم منه إلا أنّ الحاكم المركزي مطمئن إلى سلامة البلاد، وهذه من عدة الشغل عند النظام الطائفي الى أن يتدبّر أمره مع الخليج أو من موارد النفط والغاز المتوقعة.
ويتردّد انّ ضرائب على الوقود والقيمة المضافة وسلعاً أخرى هي قيد الإعداد، هذا الى جانب الاستعداد لخفض الرواتب والأجور.
بما قد يؤدّي الى ظهور أكثر من سترات صفراء لبنانية تعلن بدء تقبّل التعازي بالنظام الطائفي.
ما هي أشكال هذا الانسداد؟
المظهر الأول هو الصراع بين القوى الكبرى للطوائف على النفوذ والتحاصص داخل دولة لم تعد لديها إلا ديون بفوائد مرتفعة.
أما المظهر الثاني فهو قتال عنيف بين القوى داخل الطوائف والمذاهب، لانتزاع مواقع داخل النظام تجعلها أكثر اعتماداً في الإقليم.
المظهر الثالث هو الانهيار الاقتصادي ذو المئة مليار دولار من الدين العام، والمتسبّب بهجرة كلّ قادر من أبنائه الى الخارج، وسط ارتفاع كبير في معدل الهجرة والبطالة والتضخم والفساد، وفي مناخ من انقطاع الكهرباء والمياه مع أزمة نفايات جعلت لبنان مكباً لها ومحرقة لأوساخها، هناك اقتصاديون لامعون يقولون إنّ البلاد بحاجة الى «عائد إضافي» يجب أن لا يقلّ عن مليار دولار شهرياً حتى تصبح قادرة على تأمين المستوردات والالتزامات الأخرى والوفاء بفوائد الديون.
إنه إذاً نظام يُحتضر ويجعل قواه السياسية تتوسل «أودَها» المؤمّن لاستمرارها السياسي عند أبواب القوى الإقليمية والدولية، فيبدو المشهد مطابقاً لما كان يحدث في القرن التاسع عشر عندما كانت العائلات السياسية اللبنانية تتسكّع أمام منازل القناصل الغربيين من فرنسيين وبريطانيين ونمساويين وروس لتوسّل دور سياسي ومساعدات مالية.
ألم يكن الفرنسيون رعاة للموارنة والبريطانيون للدروز والروس للأرثوذكس وهكذا دواليك، ومأساة الشيعة أنّ إيران التي كان يجب أن ترعاهم كانت ضعيفة، فهل هناك فارق بين الأمس واليوم.
لكن ما فاقم من هذه الصورة المأساوية هو انعكاس الصراعات الإقليمية والدولية على الوضع اللبناني الداخلي، فأصبحت الانقسامات السياسية الإقليمية هي التي تؤمّن أدواراً لقوى الطوائف في لبنان وتنعشها في أدوارها التحشيدية وتزكّي الصراعات الطائفية للقوى اللبنانية ولولا الفوارق في موازين القوى في الداخل لانفجرت حروب أهلية متنوّعة.
وهنا لا بدّ من الإشادة بصبر حزب الله الذي آثر قتال الإرهاب في الإقليم وشرق لبنان والعدو الإسرائيلي على الانجذاب لتحرّشات داخلية متنوّعة.
هذه المعطيات هي التي جعلت قوى الطوائف تستنفر ماكيناتها الغيبية والمعاصرة ومن دون استثناء أحد، من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي أطلق تنبيهات من خطر الانهيار، إلى جانب بطريركية الموارنة التي جمعت نواب الطائفة لتحذيرهم من هجرة الشباب المسيحي وضياع الدور الطائفي وضرورة الاتحاد لمجابهة المرحلة.
ومن جانبه لم يوفر الإفتاء السني مناسبة إلا ودعا فيها لدعم «بَيْ السنة» رئيس الحكومة سعد الحريري في وجه سنة آخرين نجحوا على لوائح مستقلة في الانتخابات.
فإذا كان التنوّع السياسي النيابي موجوداً عند المسيحيين والشيعة الثنائي والدروز جنبلاط أرسلان فإنه موجود أيضاً عند السنة إنما مع رفض لأيّ محاولة للتعبير عنه في حقيبة وزارية أو في حق من الحقوق العامة للطائفة السنية.
أما لماذا تستنفر هذه القوى الدينية السياسية من النظام فلأنها تستشعر خطراً على نفوذها الطائفي، وبدلاً من توجهها نحو معادلات أكثر تطوراً نراها تتوغل في بناء آليات أكثر طائفية اعتقاداً منها بقدرتها على مجابهة الانسداد.
رئيس المجلس النيابي منفرداً تحدّث عن الحلّ لهذا الانسداد بالدولة المدنية التي تعيد الدين إلى رحاب عبادة الله من دون تأثيره على السياسة.
ولبطريرك الموارنة مواقف مشابهة قد تكون أفضل الممكن في هذا الزمن الصعب وتتعلق بالعودة الى تطبيق الطائف، أي إلغاء الطائفية السياسية، إنما على أساس التعادل في التوزيع النيابي ووظائف الفئة الاولى وطائفية الرئاسات الثلاث.
قد يشكل هذا الحلّ اتجاهاً مقبولاً لمرحلة التغيير التدريجي في إقليم متفجر يسيطر حتى على حركة التنفس عند سياسيي لبنان.
فهل تتلقف قوى النظام الطائفي الفرصة وتمنع الانفجار؟ الإحساس بفائض القوة لدى السياسيين اللبنانيين يمنعهم من القراءة المتعمّقة للأوضاع وهم لا يعرفون أنّ ما يعتقدونه فائض قوة ليس إلا «بارانويا» مرضية تدفع بسرعة نحو تطبيق الدولة المدنية.