أعيادٌ وليلٌ وماءٌ وقلبٌ بلا يوم عطلةٍ… و«توب نيوز» وفيروز

مرّ الصباح على الشرفات والحدائق ومداخل البيوت، فانتبه أنّ بعضها في مواسم مختلفةٍ، ومواقيت متباينةٍ، وتتميز عن غيرها بالزينة والورود، وأنها جميعها تتزين تقريباً في مواسم واحدة. فهمس لشريكه الليل سائلاً ليعلم أنها أعياد عامة أو أعياد خاصة، وأنّ الأعياد العامة هي مناسبات دينية تشمل المنتمين إلى ديانة واحدة بمعزلٍ عن جنسياتهم وبلادهم، أو مناسبات وطنية تشمل أبناء البلد الواحد بمختلف دياناتهم. وأما الخاصة فهي عيد زواج أو ميلاد أو نجاح في دراسة، أو ذكرى لتأسيس عمل. وسأل عمّا يفعله الناس في الأعياد.

فقال الليل إنهم يأكلون ويشربون ويرقصون، ويزيّنون بيوتهم ويكثرون الورود، ويقدّمون الهدايا لصاحب العيد الذي يتلقّى مع الهدايا القبلات والكلمات الطيبة والتمنيات بالأفضل. أراد الصباح التدقيق في معنى هذه الأعياد ومفاعيلها على الناس، فوجد الأطفال يحبّون الحلوى فيها والثياب الجديدة، وكبار السنّ يحبّون اجتماع العائلة التي تفرّقها المشاغل والهموم والاهتمامات. والأصدقاء والمعارف يهتمّون بـ«القيل والقال» على أصحاب العيد لدرجة الاتقان، وللمأكل والمشرب والزينة، ويدققون في ملبس الرجال والنساء، ومَن راقص مَن ومَن همس في أذن مَن على الشرفة، ومَن خرج من العيد ومَن تبعه. أما أصحاب العيد فيهتمّون عموماً بهداياهم، عددها ونوعيتها وقيمتها والحرص على معرفة ماذا ومِمَّن.

واكتشف أنّ الفرح حالة يطلبها الناس من بعضهم في أعيادهم، لكنهم غالبا لا يقدّرونها في أعياد الآخرين. وبين الناس أصناف من يهمّه قيمة أثمان الهدايا، ومن يهمّه درجة الاهتمام الذي تحتزنه وتحتويه، ومنهم من يهتم لمدى ارتباطها بخصوصية تجمعه بصاحب الهدية. واستوقفه نوع نادر من الناس يهتمّ لاثنتين يحفظهما من مناسباته، أجمل الكلمات التي كتبت ورافقت الهدية، وأجمل الورود التي زيّنت المكان، فعلم أنهم العشاق والشعراء. فقرّر أن يفتّش على عناوينهم ويحفظ مواعيدهم، ويحضر مناسباتهم، فالصباح يحبّ مثلهم الورود والكلمات الطيبة، لأنه يعلم أن مصير باقي مرفقات المناسبات النسيان… صباحكم وردٌ وكلمة طيبة.

الصباح وأمانة الليل 8-11-2014

لم يكن الصباح قد حسم أمره بعد، عندما عشق الليل ماذا عساه يقول له، فكلما همّ بالرحيل يجده خلف الباب منتظراً لساعات يتلصّص عليه ويطمئن لرحيله وحلول الظهيرة والعصر والغروب، فيظهر بحلّته البهيّة ونجومه الساحرة التي يفتتن بها الصباح ويستعدّ كل يوم للقياها. ولم يعلم ما إذا كان حضور الليل لمراقبة رحيله والانتظار مختبئاً علامة خجل أو احترام أو تهرّب من اللقاء. لكنّه كلما همّ بالمجيء إليه ليلاقيه، صدره يضجّ بالعواطف وأنفاسه تلهث للّقاء والعناق، ومعه ألف وردة ووردة تتفتح، وألحان عصافير تشدو، يلتفت خلفه فيراه قد انسحب ومضى.

وإذ يلملم الليل أطرافه ويرحل، فحار في أمره: هل هي خشية اللقاء الأول؟ فلو لم يكن يرغب به لما كان هذا الإصرار على الملاحقة، ولو كان عاشقاً مثل الصباح لغلبته اللهفة والرغبة ولو لمرّة، لتعلو على خجله أو خفره.

وقال الصباح في سرّه: عليّ أن أحترم رغبته بالبعد وأن أتقبل الحبيب كما هو لا كما أحبّ أن أراه، ويكفي أن لحظة اللقاء السريعة تتكرّر بلا انفطاع، فترسم البسمة على شفاهنا ووجوهنا، وتتيح لي رؤية جمال عينيه نجوماً مضيئة يشعل بريقها في داخلي ناراً لم تطفئها رياح وعواصف شتاء ولا حجبها حرّ صيف. فلماذا أتطلع إلى ما هو أكثر، وتكون النتيجة ما هو أقل أو الحرمان؟ لكن حشرية الصباح دفعته مرّة إلى المجيء مبكراً متخفياً ينتظر موعد طلوعه خلف نجمة اسمها «نجمة الصباح»، فوجد الليل، يهتمّ لأمر العشّاق والعمّال والكتّاب، وينظّم صدور الصحف وبرامج التلفزة، ويغطّي تسلّل المقاومين وعلى ظهره عبء هموم لا تنقطع، ولا يتحمل ضميره تركها. فكما يرتبط بالصباح باعة الصحف يرتبط بالليل كتّابُها، وكما ينتظر الصباح باعةُ الخضار والفاكهة يشتغل في الليل قُطّافُها. وعلم أنّ تساكُنَه بلحظات عاجلة بين القدوم والرحيل، قدر سعيد لا يبرّر حزناً ولا عتباً بل شعور بالرضا، لأننا إن أحبننا في الحبيب أن يكون كما نهوى، كنّا نعيد حبّ أنفسنا، فنطلب الحبّ مرّتين: مرّة أن يحبنا الغير، ومرّة أن يكون على ما نرغب، ولسنا نمنح حبّاً في المقابل… كونوا بالحبّ خِفافاً وابقوا للحبّ شغافا… قال الصباح وطبع قبلته على جبين الليل قبل أن يدعه يرحل… صباحكم رضا.

ليس للقلب يوم عطلة 9-11-2014

لاحظ الصباح أنّ أيّام الجمعة والسبت والأحد بتفاوت الأماكن والأزمان يتغيّر فيها إيقاع الحركة عن سائر الأيام كلّ صباح. فكثيرون من الذين يصادفهم في الطرقات مع طلوعه يغيبون ويكتشف أنّهم نيام. ولما دقّق الصباح ليفهم سرّ الغياب، سمع بأمرٍ اسمه «يوم العطلة الأسبوعية»، وأنّ من شأنه زيارة المعابد الدينية تفرّغاً للعبادة. لكن سؤاله كان عن رجل الدين الذي يدير المعبد، فعلم أن عطلته كل أيام الأسبوع ما عدا يوم العطلة، فهو يوم رزقه وباقي الأيام عطلة. واكتشف أن الناس عموماً في العطلة ينفقون غالبية ما يحصّلونه من عائدات أعمالهم في أيام العمل، ولذلك ما يحصّله العمال في ستة أيام يكفي بصعوبة لإنفاق يوم العطلة. فتساءل عمّا إذا كان عائد يوم واحد لرجل الدين يكفيه باقي أيام الأسبوع.

وعلم الصباح أنه مع دورة الزمان تغيرت الأحوال، وتراجع زوّار المعابد لتصير العطلة نقاهة ومناسبة ترفيه، فصارت سوق عمل حول المعابد وفي أماكن الترفيه لأناسٍ يعملون سائر الأيام، لكنهم يعملون أكثر في العطلة ومن دونهم تفقد معناها. تساءل الصباح ماذا يفعل الناس في العطلة لو توقف باعة الفاكهة واللحوم والخضار عن العمل؟ وأقفلت المطاعم والمنتزهات والمسارح ودور السينما؟ وتوقف سائقو وسائل النقل؟

ولمّا دّق أكثر سأل: ماذا لو شملت العطل المستشفيات والمطافئ؟ فعلم أن عمّالها يتقاسمون المناوبات. فسأل: هل ثمة مهنة لا عطلة فيها؟ فوجد ثلاثاً فقط: القلب والأمّ والصباح. فلو طلب القلب عطلة لانتهت الحياة، ولو توقّفت الأم عن رعاية أبنائها لتغيّر طعم الحياة وصارت أيام العطلة للكوارث وأيام حوادث وابتلاء، أما الصباح فيكفي أن يحظى بالعطلة يوماً حتى تتجهّم الطبيعة وتخسر العطلة رونقها… نحيا الفرح لأنّ هناك من تعب لصنع فرحنا. وننعم بالنوم لأن هناك من يسهر كي ننام. ونحيا بعزٍّ لأنّ هناك من ماتوا لنحيا… صباح الوفاء للقلب والأمّ، والصباح لمن بذلوا الشقاء والدماء كي ننعم بالفرح والحياة وفرح الحياة… صباحكم كلمة طيّبة لا تعرف العطلة.

صباح عمّال الحدائق في الشام 10-11-2014

قرّر الصباح اختبار علاقته بالماء، ففتح أصابع كفّيه يحسب أين يلقاه وكيف. فقال: أولاً لدة هطول المطر، وثانياً عندما تنثر الرطوبة رذاذها مع المدّ والجزر على الشواطئ فجراً مع بدايات الطلوع. وأخذ يحصي، تناسل قطرات الندى على خدّ وردة تتفتّح، وشلّال نهر يجري متدفقاً لملاقاة شعاع الضوء الأول. وبينما هو يتخطّى تعداد أصابع اليد الأولى، رأى في بقعتين مختلفين مشهدين نادرين، فقد شاهد أمّاً في قرية في جنوب لبنان تواظب مع كلّ طلوع صباح على إيقاظ أولادها، ومناداتهم بالإسم وهي في الحقل المتّصل بفناء المنزل، تنتظرهم وقد ملأت لكلٍّ منهم إبريقاً من ماء البئر ووضعته جانباً. ولمّا يصل أحدهم إليها ينحني ويلقي تحية الصباح ويفتح كفّيه ليلتقط صابونة الغار، وتسكب له الماء على سطح الكفّ اليمنى فيغسل بها يسراه وعينيه، ثم يفرك يديه ووجهه، ويتناول منها الإبريق ليروي حوضاً من أحواض الحقل، ويروح يملأ الإبريق ويسقي حتى يلتحق به أخوه يتسلم منه المناوبة، وهكذا بعد نصف ساعة يكون الذكور والإناث قد أنهوا التهيّؤ للفطور يعدّونه معاً من بيض وألبان وخضار، مصدرها بضعُ أغنام وقنّ دجاج، قبل أن يتنكّب كلّ منهم حزمة كتبه وينتقل إلى مدرسة القرية.

تتبّع الصباج يوماً بعد يوم عادات هذه الأسرة، حتى بلغ العمر بهم سنّ النضوج وصار كلّ منهم في أسرته الخاصة، فيحمل إبريقه ويمضي إلى عائلته. فقال: عندما تتوقف السقاية في حاكورة المنزل بحجة الضرورة، وسكب الأم الماء بين راحتَيْ أكفّ أولادها بداعي التمدّن، يضيع نبع حنان في العائلة ونفتقد التعلق بالأرض ولا نجد سبيلاً لاستردادهما. لذلك قال الصباح: هذا هو نبع المقاومة، حنان أمّ وعشق تراب.

أما المشهد الثاني فكان وهو يدخل إلى الشام مع الفجر، يشهد عمال الحدائق يمتشقون أجسادهم، وبأيديهم أنابيب السقاية يغدقون من خيرها ماءً نقياً زلالاً على حدائق الأرصفة. ولما حلّت الأزمة ووقعت الحرب، وتناثر كل شيء، وتشظّى المجتمع، وامتلأت الأخبار بالأحاديث عن انهيار الدولة وانشقاقات في جيشها، نظر الصباح في ذروة الخطر والخوف فوجد عمّال الحدائق يعيدون الكرّة. فقال: دولة يواظب ماؤها على التدفّق فوق زهورها في ذروة الحرب لا تنهار ولا تهزّها العاتيات وستنتصر… صباحاتكم مقاومة ونصر… وماء حديث عذبٌ يجري في حدائق حياتكم.

صباح حلب 11-11-2014

بعد ليلٍ طويلٍ، الصباح يقترب من حلب… نضجت الثمار وحان وقت القطاف، والفرص محدودة لإلقاء السلاح والالتحاق، والوقت يضيق. فالصباح يسير مسرعاً بعد تباطؤ، الطريق ليست وعرة، فقد قارب الليل على الانتهاء، والصباح ينتظر استقبالاً يليق بالانتظارات التي يعيشها العشّاق، فأحلام كثيرة تأجلت صار موعدها ممكن التحقق، ومفاجآت كثيرة موعودة صارت جاهزة، ونبض الصباح يرتفع، والزهور ترفع أعناقها لنقطة الماء الوافدة، وإذ الوافد مطر وندى وإشراقة شمس تأخرت وتاقت إليها القلوب… صباح الخير يا حلب.

صباح «توب نيوز» مع فيروز 12-11-2014

افتقد الصباح صوت فيروز الذي اعتاده مع طلوعه كل يوم، وهو يتجوّل في الحارات والقرى ويصعد جبالاً وينزل الأوداء، حتى صار الصوت ملازماً لحضور الصباح. وفي بيوت الناس الطيبين، قناة فقيرة بسيطة كبساطتهم، من دون إغراء البهرج والمفاتن، صوت فيروز وبضع كلمات كتبت من القلب وتصل إلى القلوب، فضاقت بها صدور الحقد الأسود واستخبارات الحكومات اللئيمة، وجاءوا بسكاكينهم السوداء في الليل الأسود، يحاولون قطع حبل السرّة لينقطع الصوت، فظهرت صورتهم البشعة لبضع دقائق، ولمّا رأوا بشاعتهم في المرآة هربوا خوفاً من البشاعة، ونسيوا أنها صورتهم، فجاء الطبيب بثوبه البيض وقلبه الأبيض، وصوته الأبيض، ومدّ يده يجسّ نبض القناة فوجدها بخير. اضطر لاستئذانكم هذا الصباح أن تغنوا لفيروز التي غاب صوتها قهراً وقسراً، لأنها ستعود بثوب أبيض تغنّي «عندي ثقة فيك وعندي أمل فيك»، صباح الخير لـ«توب نيوز»، حيث الناس تصنع أخبارها والناس تموّل خيارها، وحيث فيروز تقيم مع صباحاتكم بثقة وأمل… وكلمات الحب لكم والوفاء لأوطان، تعرف معنى وضع الدم في الميزان ثمناً للكرامة، سيبقى صوت فيروز وتبقى صباحاتنا معاً، وتبقى «توب نيوز» تنير صباحاتكم… عائدون.

عادت صباحاتنا وصباحاتكم 13-11-2014

تبسّم الصباح وهو يسمع صوت فيروز من الشرفات «طلعت يا محلا نورها» تغنّي لسيد درويش، وفنجان قهوة تفوح عطوره مشفوعة بالتسلّل بين بعضٍ من عبق الحبق والياسمين، وحبر صحف الصباح. فقال: «رجعت يا محلا نورها»، ومضى يتفقد زوّار شاشة الفقراء والبسطاء الذين أدمنوا معها صباحاتهم وأدمنت معهم الجراح، وتفاءلوا بها أحزانهم، وصارت جزءاً من السلاح. وسأل أمّاً تعدّ الفطور لأولادها عن سرّ العلاقة بينها وبين قناةٍ ليس فيها مسلسل واحد عن عنتر وعبلة، ولا فيديو كليب لآخر صرعات الموضة أو وصفات التنحيف السريع. فقالت: فيها روح تشبهني وكفى.

ولمّا وجد شاباً على أبواب العشرين يعدّ قهوته بيده المصابة وهو «يرندح» مع صوت فيروز فرحاً بعودتها، عن سرّ الفرح فقال: يكفي يوم كنّا محاصرين أنها كانت تصنع لنا الأمل وتتوقّع الحدث وتصيب، حتى صرنا نحن الجنود نناديها كما ننادي بعضنا يا حبيب.

والطالب الذي يستعدّ لجامعته، يردّ تحية الصباح للشاشة المزهوّة بألوانها العائدة ليقول: لن يسرقوا منّا الأمل بالحياة وهذه تشبه الأمل لأنها من لا شيء مثل كل إنجازاتنا، ليست إلا إرادة حياة ونبض عقول، ونحن بهما نصنع نصرنا وكلّنا أمل. أما المقاوم الذي عاد من خط النار وحراسة الثغور، فقال: صور الشهداء وسيرتهم تكفيني لأحبها، وأن أرسم عبرها من شرفتي خريطة الأيام المقبلة فلا تبيعنا نصراً زائفاً ولا تحبط فينا همّة قتال سيجلب النصر حكماً.

والمحبط المربك يقول: أسمع صوت فيروز فأتذكر الأيام الخوالي وأقول عساها تعود، ويأتي سنونو ربيع حقيقيّ بعد الخماسين التي أتلفت الحرث والنسل، ويبقى الحاقدون والمتلونّون عسَسَ الدول الكبرى والصغرى فيقولون: فشلنا بإسكاتها، وسنبقى نحاول وعلى ضآلة إمكاناتها وفقر مشغّليها ترهقنا بتأثيرها لأنها «سندريلا الشاشات»، فقد جاءت من الفقر وحازت قلب الأمير والأمير هو الشعب.

وتحسدها بنات جيلها وجنسها من الأميرات المتبرّجات والمترفات وترينَ الأمير مجحفاً بحقّ جمالهن، واختيار ابنة الفقراء، فيجيب قلب الشعب، وهو الأمير: إنه القلب، فردّد الصباح مع فيروز، «عندي أمل فيك وعندي ثقة فيك»، وقال شعب يمنح حبه لشاشة ليس فيها إلا غذاء العقل بالحبر وغذاء الروح مع فيروز تجمع الحب والخير والجمال مع الحق والبطولة والشهادة، هو شعب لا يهزم، والصباح اليوم ككل صباح لكم ومنكم شاشتنا، باقية ما بقي الليل والنهار، وما بقي فينا وفيكم الإصرار، أننا كما عشنا لن نموت إلا كما يموت الأحرار، مكروا فمكرنا ومكر الله والله خير الماكرين…. صباحكم حب وحياة ومقاومة ونصر، «توب نيوز» عادت بالخير والعافية… صباح الخير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى