الشاعر اللبناني المغترب وديع سعادة: على الكاتب أن يحمل في ذاته العمق الأدبي والإنساني كي تحمل كتابته هذا العمق وحينئذٍ يكتب نفسه

«دعه يكتب دع الأثر يدلّنا عليه»! هذا هو شعار «مبادرة أثر الفراشة» التي أطلقتها مجموعة شباب «أدباء وشعراء» من مختلف العالم العربي. هي حركة ثقافية تسعى إلى ربط علاقات شِعرية أدبية ما بين الداخل والخارج، ما بين المرئي والخفيّ، ما بين الجوهريّ والحسيّ. اذ تعتبر المسافة من اقترافات الخرائط، وقد جاء الأدب ليصحّح تلك الأخطاء الافتراضية، فما الحدود سوى سقطة جغرافية، على العالم أن يعيد النظر فيها.

غاية المبادرة هي التطلّع إلى إيصال الصوت الشِعري والأدبي إلى أبعد نقطة داخل العقل العربي، لتنتقل بعدها إلى الآخر الذي لا يملك الكثير من المعلومات عن الرصيد الأدب العربي. فالمبادرة ليست مشروعاً أدبياً فحسب بل هي مشروع إنسانيّ بالدرجة الأولى، جاء ليغيّر من مخطط العجز ويضع خطة بديلة اسمها التحدي وتغيير المسار. «أثر الفراشة» معبر أدبيّ يربط بين ضفاف الثقافات، هي الإشارة داخل حركة النص التنويري. يأمل هؤلاء الشباب أن يتركوا الأثر بهذه المبادرة، وأن يجدوا من يحمل عنهم تبعات المشعل بلهيبه وحرائقه في ما بعد، فالعمل الجاد لا ترى أثره الآن ولن تتوقع قطف ثمار الأحلام من أول عملية زرع في أرض الفكر. كما هناك العديد من النشاطات التي يقوم بها أعضاء المبادرة لتعريف الجمهور بالكاتب، منها عمل حوارات صحافية مع الكتّاب والشعراء أو بث مباشر معهم ثم توثيق كل ما يقومون به.

ومن أهم تلك الحوارات، حوار مع الشاعر اللبناني وديع سعادة، صاحب التجربة الشعرية المتميزة، والمتفردة، والحاصل على جائزة «الأركانة» العالمية للشعر هذا العام.

وتم إجراء الحوار مع الشاعر وديع سعادة عن طريق فريق المبادرة، وكإضافة نوعية لهذا الحوار تمّ استقبال مداخلات كتّاب وشعراء ونقّاد من مختلف العالم العربي.

الدهشة ستكون رفيقتك وأنت تقرأ له، ستقول لنفسك: أي شاعر هذا، أي رجل هذا، وأي إنسان..

كيف استطاع أن يكتب لنا أخوة المساء، ويصف المياه بالمياه، كيف لهذا الرجل القاعد في الهواء المستعمَل أن يفكر في الحيوانات، وأن يترك لنا مقعداً لراكبٍ مغادر، وأن يصف لنا الغبار ورتق الهواء ونص الغياب.

في محاولة وصل ضفتين بصوت، وفي تركيبٍ آخر لحياة وديع سعادة، يقول لنا:

«قل للعابر أن يعود، فقد نسي هنا ظله، ثم يتساءل: من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب!

كيف لنا أن نرى هذه التساؤلات في عناوين بارقة لدواوين عظيمة تلك العناوين هي بحد ذاتها قصائد، كل ذلك بسبب غيمة على الأرجح، غيمةٍ اسمها: وديع سعادة».

اثنا عشر ديوانا اثنا عشر عنواناً، اثنا عشر انبهاراً واثنتا عشرة حكايةٍ ودهشةٍ.

تشارك بالحوار كل من: أحمد عيسى من فلسطين، سمر لاشين من مصر، عنفوان فؤاد من الجزائر، فايز العباس وريتا الحكيم وحسن قنطار وسمر معتوق وغفران طحان من سورية، وبسمة العبيد من العراق.

أستاذ وديع، من أين أتت شاعرية وديع سعادة، متى رأيت أنك يجب أن تكتب ولماذا؟

الكتابة بالذات، وليس أي شكل آخر من أشكال التعبير عن الذات؟

ـ لا يمكن أي شاعر أن يعرف بدقة من أين أتت شاعريته. الشاعرية هي ابنة أمور كثيرة مرئية وغير مرئية، وابنة تجارب وأمور أخرى لا يمكن تحديدها. كذلك لا يمكن تحديد السبب بدقة لاختيار الكاتب الكتابة، والرسام الرسم، والسينمائي السينما وما إلى ذلك… أما تحقيق الطموح لهذا الكاتب أو ذاك فإن الطريق طويل جداً ومهما مشى الكاتب لا يصل إلى نهاية الطريق.

هل للبيئة والنشأة الأولى تأثيرات في تكوينك الأدبي والثقافي؟

ـ بالتأكيد البيئة والنشأة لهما تأثير على تكويني الأدبي إضافة بالتأكيد إلى كل التجارب الحياتية التي مررت بها.

عشت غربة حقيقة عن بلدك لبنان، إضافة إلى غربة المثقف الذي يسعى إلى خلق عالم لا يجد له وجودًا حقيقيًا، ما هو أثر الغربتين في تجربتك الشعرية؟

– أعتقد أن كل شاعر يعيش غربتين في الوقت نفسه، غربة جغرافية وغربة داخلية.

ولا مكان يمكنه أن يقول عنه هذا هو مكاني الحقيقي.

لك فلسفتك التي تحمل بها معاني للوطن، كيف نستطيع أن نقرأ الوطن في شعرك؟

ـ الوطن ليس مساحة جغرافية فحسب، وليس هو من تحمل هويّته أو تعيش فيه فحسب، وطني أنا هو في داخلي. لغتي هي وطني ووطني هو لغتي.

في شِعركَ تتجلى إشارات للوجود والعدم فهل هذا بسبب الفَقد الذي نالَ منك في كل مراحل حياتك؟

ـ مسألة الوجود والعدم ليست بسبب الفقد وحده بل أيضًا بسبب كل ما يجري على هذه الأرض من شرور ومن أمور أخرى كثيرة.

ما هي، بحسب رأيك، الحدود الفاصلة بين القصيدة وبقية الفنون السردية؟

ـ باتت القصيدة اليوم أو يجب عليها أن تحمل كل الفنون السردية بحيث تلغي الحدود بين الأنماط الأدبية المختلفة.

هل تتقاطع فلسفتك الشِّعرية مع فلسفتك الحياتية؟ وما هي النقاط التي تتقاطع فيها؟

ـ لا فاصل بين فلسفة الشاعر الشِعرية وفلسفته الحياتية، لا انفصام بين الاثنين على الإطلاق. وأعتقد أن الشِعر هو سؤال الوجود المختلف، الشِعر هو وهم خلق وجود مختلف وهكذا.

في نصك تشتبك عناصر التشكيل والإيقاع، كما تبدو لغة السينما حاضرة بقوة، إضافة لشعرية لها قانونها المختلف، كيف ترى التأثيرات المتبادلة بين الشعر وغيره من الفنون؟

ـ باتت القصيدة اليوم أو يجب عليها أن تحمل كل الفنون السردية بحيث تلغي الحدود بين الأنماط الأدبية المختلفة.

لأية درجة تشغلك فكرة تحطيم التابو؟

ـ التابو هو الصنم الأول الذي يجب تحطيمه في الشِعر.

تعدّدت الأدوار التي لعبها الشعر والشاعر في تاريخنا العربي، كيف ترى دور الشاعر والشعر في عالم اليوم؟

– على الشاعر أينما كان أن يبقى الناقد لكل ما يجب نقده وأن لا يخضع لسلطة ولا لإغراء.

بماذا يختلف النص النثري الشِعري عن النص النثري الأقل شعرية؟

ـ النص الشِعري الحديث يتسّع لكل الأنواع الأدبية، ويمحو الحدود بينها، هذا إذا كان نصاً غائرًا في الأعماقِ، وحاملاً المميّز والمختلف، وكاشفًا للجديد. وفي النهاية ليس المهم التسميات، بل المهم هو النص.

«الأدب الجيد يفرِض نفسه»… إلى أي مدى يمكن أن تنقذ هذه العبارة القارئ والأديب بالوقت ذاته مِن الغُبن، في ظل الثورة المعلوماتية ووسائل التواصل التي لا تقيّدها شروط؟

ـ أعتقد نعم أن الأدب الجيّد يفرض نفسه ولو بعد حين، ولا أظن أنه سيكون هناك أي غُبنٍ لأدبٍ جيّد، لا بالنسبة إلى الأديب ولا بالنسبة إلى القارئ. لا الثورة المعلوماتية ليست كافية كي يُثبت الأديب نفسه، فللأدب شروط أخرى غير مدى انتشاره.

هل كنتَ ظلا لظل وديع؟

ـ كلا لم أكن، وأظنني لن أكون.. فالقطب الحقيقي في الطريقة ينشد حريتك وتوقك الطوعي للطواف لتعرف السر بنفسك. سلاحي في قراءته أو قراءة الشِعر كان الشعار الفرعوني القديم: «كن كاتبًا لتكون سيّد نفسك».. فاعترضتني صور حجازي ذات الإيقاع الريفي الصاخب، وهي تدخل مدينة بلا قلب مع عجلات الترام، وتستسلم لذباب المقابر الأخضر، وعطلتني دموع صلاح عبد الصبور وهو ينتظر نبياً يحمل سيفاً لينقذ نبياً مهزوماً يحمل قلماً.. لكن الأنبياء لا يجيئون غالباً بعدما انتهى البريد الإلهي، وأوقعتني صور عفيفي مطر، التي تشبه الطواحين، وهي تندلع كالجحيم الأرضي في رأسي وأراها قرى تفرّ من طينها وسكانها، ولم يحرّرني أدونيس بلعبة اللغة وغواية الرقص مع النفري…

كان ظل وديع وديعاً، يغوي ويحرّر في آن، تقبله وترقص معه، ثم ترفضه وتقفز السور الذي بينك وبينه. لا يدّعي نبوة.. ولا ينتظر أنبياء، يذهب للبحر وحده كصياد قديم، ويحتسي خمر المجاز صوراً معتقة، ثم يفرّ لبحر غريب، غارسًا ظله هناك، في مساء يتجدد بلا أخوة سوى ذلك الغبار الذي يرتّق الهواء وكلما رأى ظلاً غرس شجيرة نور».

وعلى الكاتب عمومًا سواءَ كان شاعرًا أو غير شاعر أن يحمل في ذاته العمق الأدبي والعمق الإنساني لكي تحمل كتابته هذا العمق وحينئذٍ حين يكتب نفسه، يكون يكتب الإنسان عمومًا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى