الانسحاب من الناتو: ابتزاز ترامب للاتحاد الأوروبي
برع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تسخير الآلة الإعلامية لخدمة نواياه وحرف مسار تغطيتها بإثارة مواضيع مغايرة، وما تلبث دائرة الخناق القضائي بالاشتداد حول عنقه يهبّ لفرض مواضيع أخرى على صلب الجدل السياسي والأولويات الأميركية برمتها.
لا يخفي الرئيس ترامب كراهيته للتحالفات الدولية والالتزامات المترتبة على الولايات المتحدة. موقفه «الشخصي» من استمرارية حلف الناتو ومعاداته له لم يعد محط تكهّنات، بدءاً بتصريحاته خلال الحملة الانتخابية لم يتوانى عن ترديدها، بصرف النظر عن مدى الدقة، بأنّ الولايات المتحدة تساهم بنسبة 80 من ميزانية الحلف، والتي اعتبرت سلاحاً لابتزاز الاوروبيين وتهديدهم بانسحاب بلاده من الحلف إن تخلفوا عن زيادة حصة البلدان المختلفة في الميزانية، قائلاً ذلك بصريح العبارة قبيل انعقاد قمة دول الحلف في منتصف تموز/ يوليو 2018.
الجديد في عملية «ابتزاز» الحلفاء الأوروبيين جاء في تقرير ليومية «نيويورك تايمز»، 15 كانون الثاني/ يناير الحالي، بغرض إحراج الرئيس وزيادة منسوب حملات الضغط المباشرة عليه، علاوة على التطورات القضائية شبه اليومية. لعلّ أبرز المحطات كانت تصريحاته خلال انعقاد قمة الناتو، تموز الماضي، «يهدّد» بالانسحاب من الحلف «دون موافقة الكونغرس».
تقرير الصحيفة كشف عن «.. رغبة الرئيس ترامب للانسحاب من حلف الناتو منذ العام الماضي وإبلاغه كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارته سراً أنه لا يرى فائدة للبقاء في الحلف»، وانه «عنصر استنزاف» للموارد الأميركية. وأكد التقرير، استناداً لمصادر رفيعة المستوى، انّ «رغبة» الرئيس ترامب تجدّدت مرة أخرى حديثاً «بالتزامن» مع تحقيق قد يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالي، إف بي آي، حول «عمل ترامب لصالح موسكو» واكبه تقرير نشرته زميلتها النافذة «واشنطن بوست» يزعم أنّ الرئيس ترامب حجب تفاصيل لقاءاته مع الرئيس الروسي العام الماضي عن طواقم مساعديه.
أثار تقرير الصحيفتين جملة انتقادات سريعة ضدّ الرئيس ترامب، منها تحذير الأميرال المتقاعد جيمس سترافيديس، من عواقب الانسحاب بأنه سيشكل «خطأً جيوسياسياً مأساوياً.. وهدية القرن لبوتين».
رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، دعت الرئيس ترامب إرجاء خطابه السنوي المقرّر أمام الكونغرس بمجلسيه لحين إنهاء أزمة الإغلاق. انتهز الرئيس ترامب تلك الفرصة في الصراع اليومي ليسجل هدفاً إضافياً ضدّ بيلوسي عقب علمه بنيتها القيام بجولة خارجية أولى محطاتها كانت بروكسيل ولقائها مع «كبار مسؤولي حلف الناتو والقادة العسكريين الأميركيين»، قبل استئنافها التوجه لأفغانستان ومصر. وبصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، ألغى الرئيس ترامب تصريح استخدام فريق بيلوسي للطائرات العسكرية الأميركية وأنّ عليها استخدام الخطوط الجوية التجارية بدلاً من ذلك.
المتحدث باسم مكتب بيلوسي، درو هاميل، أوضح للصحافيين أنّ «تسريبات الرئيس ترامب أفسدت خطة بديلة تعدّها بيلوسي للسفر عبر الخطوط التجارية لأفغانستان، لأنه فضح وجهتها وأفشى سريتها.. وبات الأمر يشكل تهديداً خطيراً على الوفد» المرافق لها.
التصريحات العلنية المتواصلة بالانسحاب من الحلف والمناقشات الداخلية «الحادة» دفعت كبار مسؤولي الإدارة آنذاك، وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشارالأمن القومي جون بولتون، وفق تقرير «نيويورك تايمز»، التوجه لبروكسيل على وجه السرعة لطمأنة دول الحلف ببقاء الاستراتيجية الأميركية والتزاماتها نحوهم على ما هي.
كما التزم الرئيس ترامب لهجة الاستمرار في الحلف خلال إعلانه في البنتاغون عن استراتيجية الدفاع الصاروخي للولايات المتحدة، 17 كانون الثاني/ يناير الجاري، مطمئنأً ومحذراً ومهدّداً في الوقت عينه بقوله «سنكون مع الحلف مئة بالمئة،» مستدركاً «ولكن كما قلت للدول الأعضاء يتعيّن عليكم ان تخطوا للأمام وتدفعوا» مستحقاتكم المالية لميزانية الحلف ولا «يمكن أن نكون الأحمق الذي يستغله الآخرون».
مستقبل الحلف
أركان القوة الأميركية الهائلة تتمثل في الاقتصاد والأسلحة الحربية، بديهية لكلّ باحث في الشأن الأميركي. الاقتصاد الأوروبي «على وشك» منافسة سيطرة القرار الأميركي على سياساته ويتمدّد داخلياً على هذا الأساس، بينما تراجعت الصناعات العسكرية الأوروبية عن مثيلاتها الأميركية منذ زمن. الأمر الذي يفسّر أحد جوانب إلحاح الرئيس الأميركي على أعضاء حلف الناتو بشراء مزيد من العتاد العسكري الأميركي، كما فرضه على اليابان وكوريا الشمالية رغم عدم صوابية الحاجة لهما بذلك.
شدّد الرئيس ترامب في كلمته القصيرة في البنتاغون، 17 كانون الثاني/ يناير، على «تفوّق الصناعات العسكرية الأميركية»، وتخصيص ميزانيات عالية غير مسبوقة للجهد الحربي، مناشداً دول الحلف والدول «التابعة» الأخرى باستدامة شرائها المعدات والتقنية العسكرية الأميركية.
في سياق طمأنة الحلفاء لاستمرار الدعم الأميركي، أفاد المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، 9 كانون الثاني/ يناير الحالي، أنّ «البيت الأبيض يواصل تطوير خططه الرامية لزيادة القوات الأميركية في القارة الأوروبية، بالرغم من الانتقادات التي يوجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحلف».
مسألة الانسحاب من عدمها، في حقيقة الأمر، لها أبعاد استراتيجية تخص الاستراتيجية الكونية الأميركية بشكل خاص، وتمدّدها في عموم العالم كونها تحمّل دول الحلف زيادة الانفاق والتمدد العسكري والأمني، لا سيما في وجودها «الرمزي» في سورية، فضلاً عن أفغانستان ومشاركتها العمليات العسكرية في الحرب ضدّ اليمن.
ما يغيب عن تلك المسألة الحيوية، بقاء الحلف من عدمه أو تقويضه، هو الدور «الإسرائيلي» المستفيد الأول من إمكانيات الحلف ودوره في النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ونالت تل أبيب مقعداً «كشريك» في حلف الناتو، لا سيما أنّ «القوات التابعة للولايات المتحدة في ألمانيا هي التي تسافر إلى إسرائيل لإجراء تدريبات مشتركة.. ومسؤولة عن أعداد بطاريات صواريخ الباتريوت».
نشير في هذا الصدد إلى تقرير نشرته وكالة الأنباء الألمانية، د ب أ، عقب زيارة وزير الخارجية الأميركي لبغداد بأنّ مايك بومبيو أبلغ رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بأنّ «اسرائيل قد تقصف في أيّ وقت أهدافاً داخل الأراضي العراقية ترتبط بفصائل مسلحة تقاتل في سورية».
يشار أيضاً إلى إعلان قيادة حلف الناتو عن مباحثات مساعد أمينه العام، جون مينزا، في بغداد «.. لتوسيع مهام الحلف في العراق»، عقب موافقة وزراء دفاع الحلف في شباط الماضي على ذلك «بطلب من واشنطن».
تأكيداً على صحة النبأ الأول، أفادت النشرة العسكرية المختصة «ذا درايف The Drive، 14 كانون الثاني/ يناير الحالي، بخطط الجيش الأميركي لتعزيز تواجده وانتشاره على الأراضي الأردنية، وتوسيع «قاعدة موفق السلطي» الجوية وتهيتئها لاستقبال أنواع متعدّدة من المقاتلات الحربية والهجومية وطائرات الدرونز المسلحة وناقلات الشحن الضخمة، تبلغ كلفته عدة ملايين من الدولارات، تشرف عليها مجموعة الحملة الجوية 407 التابعة لسلاح الجو الأميركي.
وسترتفع قدرة القاعدة لاستقبال متزامن لطائرتي نقل ضخمة من طراز C-17A Globemaster III وطائرة شحن من طراز C-5 Galaxy، وما بداخلها من قوات مسلحة ومعدات عسكرية وموارد أخرى.
وأضافت النشرة أنّ ميزانية البنتاغون لعام 2018 «تضمّنت تخصيص أزيد من 140 مليون دولار» لجهود تحديث قاعدة سلاح الجو الملكي الاردني.. والتي تستخدمها الولايات المتحدة بنشاط في عملياتها الإقليمية منذ عام 2013، على الأقلّ».
«انسحاب الولايات المتحدة من حلف الأطلسي سيكون على رأس القضايا التي سيناقشها اللواء أفيف كوخافي»، رئيس الأركان «الاسرائيلية» الجديد مع القيادات الأميركية في زيارته المقبلة. تلك كانت خلاصة جملة تقارير واكبت تجديد إعلان الرئيس ترامب عن النية بالانسحاب من حلف الناتو.
يدرك ترامب نوايا الدول الأوروبية لاتخاذ دور أكثر استقلالية عن واشنطن، في ظلّ انتفاء الحاجة للاصطفاف العسكري «في مواجهة التهديد السوفياتي» الذي لم يعد له مبرّر وتوجه الدول الأوروبية لإنشاء «جيش أوروبي موحد،» كما أوضح رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، عام 2015، معللا أنّ قوة عسكرية موحدة «سترسل رسالة واضحة لموسكو بأننا جادّون في الدفاع عن قيم الاتحاد الأوروبي».
تقرير صحيفة «نيويورك تايمز»، سالف الذكر، والقاضي بأنّ الرئيس ترامب أضحى حرّ التصرف في قراراته العسكرية بعد «استقالة أو إقالة» وزير الدفاع جيمس ماتيس، رمى لتهيئة الأجواء لقرار بالانسحاب أحادي الجانب، وممارسة مزيد من الضغوط على الرئيس.
استراتيجيو واشنطن لا يعوّلون كثيراً على تداعيات ذاك التقرير أو صلاحية ما ورد فيه في ظروف العام الماضي، بل تتهيأ الصناعات الحربية الأميركية لزيادة مبيعاتها للأوروبيين وآخرين بتشجيع ورعاية تامة من الإدارة الأميركية، مما ينفي حقيقة التهديدات بالانسحاب.
وعند الأخذ بعين الاعتبار البعد والدور «الاسرائيلي» في الاستراتيجية الأميركية الشاملة، لا نجد عوامل تدعم الانسحاب، بل على العكس سنشهد تعزيزاً للدور الأوروبي ليملأ بعض الفراغ للقوات الأميركية في ساحات متعدّدة، أبرزها في العالم العربي.
مركز الدراسات الأميركية والعربية