الشاعر المصري شريف الشافعي لـ«البناء»: القصيدة هروب طفولي من عالم معقّد إلى تلقائية الحياة
نبيل المقدم
منذ أيام قليلة، أصدرت دار نشر «أنباوند كونتنت» UNBOUND CONTENT في نيو جيرسي في الولايات المتحدة الأميركية الترجمة الإنجليزية لديوان «البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية» للشاعر المصري شريف الشافعي، وهو الجزء الأول من تجربة شعرية متعددة الأجزاء للشافعي بعنوان «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، كانت قد صدرت بالعربية خلال السنوات الماضية في أربع طبعات ورقية: كإصدار خاص القاهرة 2008 ، وعن دار تالة السورية دمشق، 2009 ، وعن دار سندباد للنشر القاهرة، 2010 ، وعن دار «الغاوون» اللبنانية بيروت، 2012 ، وفي طبعة إلكترونية عن مجلة «الكلمة» اللندنية 2011 .
يوضح الشاعر شريف الشافعي أن الترجمة الإنجليزية استغرقت 260 صفحة من القطع الكبير، وقد أنجزها الدكتور عمرو الزواوي، مدرس اللغويات والترجمة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية جامعة الإسكندرية، وتضم إلى جانب النصّ الشعري مجموعة من الدراسات النقدية حول تجربة الشافعي، بأقلام نقّاد وباحثين ومبدعين عرب، منهم: الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا، الكاتب الجزائري سليم بوفنداسة، الشاعرة اللبنانية الراحلة صباح زوين، الكاتب اللبناني الراحل الدكتور جورج جحا، الشاعرة السورية لينا شدود، الشاعر السعودي محمد خضر الغامدي، الكاتب المغربي عبد المنعم الشنتوف، الكاتب المصري الدكتور عادل بدر، إلى جانب حوار صحافي مع الشافعي أجرته صحيفة «الأهرام ويكلي» بالقاهرة.
كان الشافعي قد وقّع عقد نشر الكتاب أثناء مشاركته في «مهرجان بريدج ووتر الدولي للشعر» BIPF ، الذي انعقد في كانون الثاني 2017 بمقرّ جامعة بريدج ووتر في ولاية فيرجينيا الأميركية، بحضور حوالي 80 شاعرًا من الولايات المتحدة ودول متعدّدة، من بينها مصر. وقد وقّعت العقد عن دار «أنباوند كونتنت»، مؤسستها الشاعرة والناشرة الأميركية أنماري لوكهارت.
كتاب غير تقليدي فكرة وإخراجاً
عن صدور «إنسان آلي» بالإنجليزية في كانون الثاني 2019، وإتاحته عبر موقع «أمازون» العالمي لتسويق الكتب، قالت الناشرة أنماري لوكهارت: «تحمّسنا للكتاب كونه غير تقليدي في فكرته وإخراجه، يسعى إلى استكشاف الإنسانية من خلال التكنولوجيا والغوص في تأملات البشر والروبوتات على السواء».
ويرى الشافعي أن الشعر فعل مكتمل بذاته، وليس رد فعل، ويقول: «الحراك السياسي الثوري» مخاض في ميدان السياسة والإصلاح الاجتماعي، ربما تصحبه أو تلاحقه أغنيات حماسية وحفلات تعميد، وأحيانًا موائد وموالد، لكنها ليست أبدًا قصائد. الحراك الشعري الثوري ثورة الشعر بالمفهوم الرحب، لا شعر الثورة بالمعنى الضيق هو شغل الشعراء المجدّدين، وجهدهم الجهيد، قبل عقود وعقود من الحراك السياسي، ولا شك في أنهم سيواصلون، ربما بعزيمة أكبر، بعد ما شهدته أرض الواقع».
ويستطرد شريف الشافعي: أرجوحة الطفولة هي التي تحيلني مباشرة إلى ديواني الأخير «رسائل يحملها الدخان»، ففي أحد مقاطعه: «يا قلبها: ابقَ صغيرًا، عندما تكبُرُ هي في قلبي». ليست فقط حبال الذاكرة التي تربط الشاعر بطفولته، فهو يظل يمارس تلك الطفولة على مدار حياته، وحين ترميه القصيدة الطازجة بوردة، لا يملك صدره سوى أن يصير حديقة أطفال. غاية طموحي أن تكون كلمة واحدة من كلماتي قادرة على تنبيه وردة نائمة، أو إيقاظ أخرى مستيقظة: «أن أوقظَ وردةً، خيرٌ من أنامَ في بستانٍ».
عشت الطفولة «طفلاً»، وهذا يكفي لوصف تلك المرحلة بكل ما فيها من براءة وانطلاق وتساؤل، غير أن علامتين كبيرتين تبقيان هما الأبرز، ظهرتا في الطفولة، ولم أفهمهما إلا في سنوات لاحقة. الأولى هي «الغربة»، حيث أمضيتُ جزءًا من طفولتي خارج الوطن. والثانية هي «الموت»، الذي اختصّ الأحباء «أمي وجدودي»، وظلت أحلامي وقتها برجوعهم واقعًا لا أستطيع الفكاك من أسره، حتى نضجت أمام عيني «شجرة الفقد».
كل ما في الطفولة يشدّني إليها، وكل ما أستطيع أن أحياه منها أحياه الآن، لكن هناك ما يغيب بالتأكيد إلى غير رجعة. وهذا «الغائب» من الطفولة، هو الذي حذرتُ طفلتي من أن تختبئ فيه، لأنها لو اختبأت فيه، فلن أجدها هي الأخرى. أقول في مقطع من «رسائل يجملها الدخان»:
«أين تختبئين يا طفلتي؟؟
اختبئي في أي مكان
سأجدكِ
إلا أن تختبئي في طفولتي».
وعن فعل الكتابة يقول الشافعي: أكتب، ببساطة، وفي المقام الأول، كي أجد شعرًا أستمتع بقراءته، وأرضى عنه تمامًا. وكل مَن قرأت لهم من الشعراء، وغيرهم، أثّروا فيّ بالإيجاب، حتى ولو بتفادي ما لم أستسغه في كتاباتهم. الشعري الوامض، الذي أطالعه وأحبه من المنتج الثقافي ومن حركة الحياة العادية، أكبر وأوسع بكثير مما تحفظه ذاكرة الشعر ودواوينه.
أما القصيدة، فهي تلك الوحيدة في هذا العالم التي لا تخون المواعيد أبدًا، لأنها، ببساطة، المواعيد كلها. زمن القصيدة ممتدّ عندي على مدار اليوم كله، والعمر كله، وهو أشمل بكثير من زمن التدوين النهائي على الورق. إن الإمساك بالقلم، وخط حروف القصيدة، مرحلة متقدمة جدًّا من مراحل الإبداع المتتالية.
النصّ يُبرق كفكرة أولية ضاغطة، في لحظة كشف روحي وعقلي استثنائية، ويظل يكبر وينمو ويتشكل داخليًّا دقائق أو ساعات أو أيامًا أو شهورًا أو سنوات، مستغرقًا الوقت كله بلا مبالغة، في اليقظة، والمنام، والغيبوبة. وحين ينسكب النص من المخيلة والذهن على بياض الورق، فإنه ينسكب طبيعيًّا مكتملاً، رافضًا مشرط الجراح، وأجهزة الشفط، والطلق الصناعي، وحضانات اكتمال النموّ.
الشعر عملية حيوية لازمة للوجود كـ»التمثيل الضوئي»
ويتابع الشافعي: الشعر عندي ليس اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو «التمثيل الضوئي» الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات.
الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها عملية تحويل طاقة الحياة لطاقة شعرية ، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، فهو قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانورامية لهذا العصر الآلي الرقمي الأجوف، بتركيز شديد.
أنا لا أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على «الشعرية الخام» إذا جاز التعبير. إن الذي وجدتُه في الشعر هو «الشعر نفسه»، كما تمنيتُ أنا أن يكون، أي بالصورة التي تستهويني، ومن ثم فإنني أشرك القراء معي ببساطة وحميمية في ملامسة هذا الجوهر، الذي أراه مختلفًا نادرًا، من وجهة نظري أنا على الأقل.
لا يمكن تغييب تأثيرات «الرقمية»
أن يكون الشاعر شاعرًا معناه: أن ينبض، أن يحيا. ولماذا لا يحيا في ظل الموجة الرقمية، أو غيرها من الموجات؟! بل لماذا لا تتفجر «الشعرية» من الفأرة والكيبورد والتيار الكهربائي المتردّد؟ ولماذا لا تحلق الروح في فضاء افتراضي، باحثة عما تفتقده في هذا العالم؟ وماذا ستجني الروح من خسارةٍ لو كسبتْ اغترابًا إضافيًّا فوق اغترابها المزمن؟!
هو عصر رقمي نعيشه، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه «الرقمية»، كنمط حياة، عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر!
ويقول: النشر الإلكتروني للشعر مثلاً، هو أحد، وليس كل، وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر. والأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديدًا معبرًا عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق.
ويضيف: «تجربتي كلها تشتبك مع جوانيات الحياة الرقمية، هذا ما أثق به، والعدد الأكبر من القراء والأصدقاء المبدعين والنقاد قد اطلعوا على أعمالي من خلال نسختها الإلكترونية، لكن صدورها في طبعات ورقية أمر مهم بالنسبة لي، لأن الوسيط الورقي لا يزال قادرًا على تطوير نفسه وتطويعها لاستيعاب تشكلات فنية جديدة تتمثّل روح الحياة الرقمية، وهذا ما أردتُ إثباته مثلًا من خلال الغلاف والإخراج الطباعي المغايرين للمألوف في بعض الدواوين مثل «إنسان آلي».
كاتب وصحافي