«يوتوبيا» متسامية نظريّاً لا تنزل إلى أرض الواقع 7
جورج كعدي
يوصف سان سيمون 1760 ـ 1825 بكونه أحد آباء الاشتراكيّة، إذ قدّم عدداً من الأفكار التي يتضمّنها العديد من «يوتوبيّات» النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فبالنسبة إليه لا بدّ من أن يختفي الشكل القديم للحكومات التي لم تبق ذات فائدة للمجتمع. أظهر سان سيمون بوضوح تامّ في الوثيقة المشهورة التي عرفت باسم «أمثولة سان سيمون» نشرت عام 1832، أي بعد وفاته بسبع سنين أنّ الجزء الحيويّ من المجتمع يتكوّن من العلماء والتقنيّين الفنّيين ورجال المصارف والأعمال، لا من السياسيّين وموظّفي الدولة أو رجال الدين. يقول: «دعونا نفترض أنّ فرنسا فقدت خمسين طبيباً من أهمّ أطبّائها وخمسين عالماً من أكبر علماء الكيمياء فيها، ومثلهم من أنبغ علماء الفيزيولوجيا، وقَدْرَ هؤلاء من أكفأ رجال المصارف، ومئتين من أفضل تجّارها، وستّمئة من أبرع الزراعيّين، وخمسمئة من أمهر صنّاع الحديد وأقدرهم إلى آخر قائمة الصناعات الأساسيّة . ولأنّ هؤلاء هم من أهمّ المنتجين الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، وأبرز المسؤولين عن أهمّ المنتجات، لن تلبث الأمّة لحظة خسارتهم أن تتحلّل وتغدو مجرّد جسد بلا روح وتتردّى في أعين الأمم المنافسة إلى حالة من الضعف المهيمن، وتبقى في هذا الوضع الهامشيّ ما بقيت الخسارة قائمة ومواقع هؤلاء شاغرة. ودعونا نفترض افتراضاً آخر. تخيّلوا أنّ فرنسا احتفظت بجميع عباقرتها، سواء في الفنون والعلوم أو في الحرف والصناعات، لكنّها فقدت في اليوم نفسه لسوء الحظّ شقيق الملك، دوق أنغوليم، وجميع أفراد الأسرة المالكة، وسائر رجال البلاط الكبار، ووزراء الدولة جميعاً ـ سواء كانوا على رأس الإدارة أو لم يكونوا ـ وكامل أعضاء المجلس السرّي الخاص، وسائر الماريشالات والكرادلة ورؤساء الأساقفة وكبار القساسوة والكهنة والمديرين الفرعيّين وموظّفي الحكومة والقضاة، وفي مقدّم هؤلاء أجمعين مئة ألف من ذوي الأملاك وهم صفوة نبلاء الدولة. سوف يتألّم الفرنسيّون بالتأكيد لهذه الكارثة الرهيبة، لكنّ فَقْدَ مئة وثلاثين ألفاً من الأفراد، المعروفين في الدولة بالسمعة الحسنة، سيثير حزناً من النوع العاطفيّ الصرف، ولن يؤثّر في المجتمع تأثيراً يذكر».
كان سان سيمون أعلن عام 1816 أنّ السياسة هي علم الإنتاج، وأنّ من الممكن إدراجها برمّتها ضمن علم الاقتصاد. كما طالب بتحويل فرنسا إلى مصنع، وتنظيم شؤون الأمّة مثل نموذج ورشة عمل كبيرة. وسوف تختفي في المجتمع الجديد جميع الفروق الطبقيّة، ولن يبقى سوى العمّال، علماً أنّ هذه التسمية الأخيرة ستُستخدم بمعناها الواسع لتشمل الصناعيّين والعلماء ورجال المصارف والفنّانين. بيد أن ذلك لا يعني أن يُمسي الجميع متساوين، طالما أن كلّ فرد سينال تبعاً لقدراته بل تبعاً لرأس المال المستثمر . مهمّة إدارة البلاد يعطيها سان سيمون لأفضل رجال الصناعة والعلماء ورجال المصارف، إلخ، أي أنّ حكومة «المديرين» تحلّ مكان حكومة السياسيّين القديمة. وفي أحد المشاريع العديدة التي قدّمها سان سيمون عن الحكومة يمنح السلطة التنفيذيّة لمجلس نوّاب مكوّن من ممثّلين عن رجال التجارة والصناعة والزراعة يسعهم قبول أو رفض الاقتراحات التشريعيّة التي تُعرض عليهم من قبل مجلسين مكوّنين من العلماء والفنّانين والمهندسين، ومهمّة هذه «الحكومة» الوحيدة هي العمل على مضاعفة ثروة البلاد. ولا يدع هذا النظام فرصة لأيّ مبادرة يقوم بها العمّال الذين لا يثق بهم سان سيمون البتّة، قائلاً في هذا الصدد: «إنّ مشكلة التنظيم الاجتماعيّ يجب أن تُحلّ لأجل الشعب. أمّا الشعب نفسه فهو سلبيّ وكسول ويجب إسقاطه من حسابنا في أيّ بحث حول المشكلة، وأفضل وسيلة أن يُعهد بإدارة الشؤون العامّة إلى القادة أو الرؤساء الصناعيّين الذين سيحاولون دوماً وعلى نحو مباشر التوسّع في آفاق مشاريعهم إلى أقصى حدّ ممكن، بحيث تؤدّي جهودهم في هذا الاتجاه إلى أعظم قَدْر من التوسّع في حجم العمل الذي تنفّذه جماهير الشعب».
رغم اعتراف المفكّرين الاشتراكيّين بأنّ تعالي سان سيمون على طبقة «البروليتاريا» شكّل لهم صدمة كبيرة، إلاّ أنّ الفكرة القائلة بأنّ إدارة البلاد هي من شأن الخبراء، وبأنّ الآلة المسيّرة للدولة ينبغي أن تتكوّن من لجان أو مفوّضيات من التقنيين الفنّيين ورجال الصناعة، هي فكرة يمكن أن نعثر عليها في العديد من الكتابات الاشتراكيّة… يتبع .