حسن نصر الله… والفرق بين القائد والقاعد!
نصار إبراهيم
نقف، نجلس، ننظر، نسمع، نراقب، نتابع، نتأمّل، نتخيّل، نفكر، نستحضر… ثم نبدأ بالمقارنة.
منذ أن أعلنت قناة «الميادين» عن حوار العام مع السيد حسن نصر الله، اشتعلت حالة عامة من الترقب والانتظار طالت قوى وأحزاباً ودولاً وحكومات وإعلاميين ومثقفين، حلفاء وأعداء وأصدقاء.. ناساً عاديين وغيرهم، مختصّين وهكذا، كما هيمنت حالة من الاشتباك والتوقعات على الفضاء الإعلامي وشبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، وبصورة لا تقلّ درامية في «إسرائيل» أيضاً.
هذا وتصاعد النقاش والتحليل والتعليق والاتفاق والاختلاف والاشتباك أيضاً أثناء وبعد المقابلة… لن أخوض في تحليل المواقف والقضايا التي جاء عليها السيد حسن نصر الله في مقابلته الاستراتيجية الهامة… فقد تناولها الكثير من المحللين والسياسيين والمختصفين الأكفاء… ما يهمّني هنا هي زاوية أخرى مختلفة نوعاً ما…
أقصد الاهتمام الكثيف والحضور الطاغي وقوة التأثير التي يفرضها السيد حسن نصر الله على الجميع.
والسؤال هو: من أين للسيد حسن نصر الله كلّ هذا الحضور والتأثير، ولماذا كلّ هذا الاهتمام وكلّ هذا الانتظار، كلّ هذا التحسب والتوتر والقلق!؟
هذا السؤال البسيط يقود بالضرورة إلى جوهر الفكرة التي أودّ لفت النظر إليها، أيّ مفهوم وشروط ومعايير القيادة.
يعود هذا الاهتمام بالسيد حسن نصر الله وما يرافقه من احترام ومصداقية وأكثر، إلى النموذج القيادي الذي جسّده ويجسّده بثبات السيد نصر الله على مدار تجربته كأمين عام لحزب الله. إنه النموذج المثال الذي يفرض الاحترام وحساب الحساب وأخذ كلّ ما يقوله ويلمّح إليه على محمل الجدّ ولأقصى حدّ، سواء ممّن يقف معه أو ضدّه.
كلّ هذا الحضور ما هو إلا تعبير عن الاعتراف بأنه نجح في أن يقدّم نموذجاً قيادياً مختلفاً وبصورة جذرية ونوعية بما يتجاوز وعلى كلّ المستويات غالبية أنماط القيادة السائدة في الواقع السياسي العربي.
فالسيد حسن نصر الله يحيلنا إلى نموذج قيادي لم يعهده الوعي العربي منذ عقود طويلة وتحديداً منذ جمال عبد الناصر مع مراعاة الاختلافات الفردية وخصوصية التجربة، فالحديث لا يتعلق هنا بمجرد قائد ناجح في حزب سياسي محلي، بل يتعلق بنموذج قيادي فرض حضوره واحترامه على المستوى العربي والعالمي بما في ذلك عند الكثير ممن يعادون حسن نصر الله وحزب الله سياسياً وايديولوجياً.
كلّ هذا وسواه يستفزّ الوعي والاستحضار والمقارنة…
لقد جسّد حسن نصر الله بشخصيته وأدائه ووعيه وسلوكه شروط القيادة المبدعة: الوعي، المعرفة، المصداقية، الرؤية الاستراتيجية، الإرادة، الشجاعة، الحكمة، الصبر، الإنسانية، التواضع، الذكاء، الإبداع، المبادرة، التخطيط وعدم ترك أيّ شيء للصدف، والأهمّ معرفة العدو الذي يواجهه وإمكاناته دون تقليل واستخفاف ودون مبالغة وخوف…
لكن… وبالرغم من الأهمية القصوى لهذه السمات المميّزة والأساسية إلا أنها تبقى ذات محدودية لو لم يبادر السيد حسن نصر الله باعتباره الأمين العام لحزب الله بتوظيفها المستمرّ والدؤوب من أجل بناء منظومات القوة الشاملة في الحزب، بما هي بنى وعوامل قوة مادية وعسكرية واقتصادية وجماهيرية ونفسية وأمنية وتحالفات ورؤية وأيديولوجيا وانضباط والتزام وجرأة وشجاعة، مع مواصلة تركيم وتطوير استراتيجيات العمل الفاعلة والحيوية بما يستجيب للتحديات القائمة والناشئة والمتولدة يومياً في سياقات الصراع بكلّ جدارة واقتدار.
هذا يعني أنّ هذه السمات الخاصة، بقدر ما هي شرط ابتدائي على المستوى الذاتي الشخصي للقائد، إلا أنه يجب الانتباه إلى أنها لا تتأسّس عفواً وبالصدفة، ذلك لأنها تنبني في سياقات التجربة والاشتباك المستمرّ، بمعنى أنّ ما يتمتع به السيد حسن نصر الله من سمات ومواصفات شخصية ما كان لها أن تأخذ كلّ هذا المدى والوضوح الحاسم لو لم تتوفر منظومات وبنى حزبية تجعل منها واقعاً، وهذا ما كان يدركه السيد حسن نصر الله كقائد فذ لتجربة حزب الله… فلو كان حزب الله تنظيماً هابطاً وهشاً وضعيفاً.. لما توفرت الشروط لظهور هذه الشخصية القيادية المدهشة. والعكس أيضاً صحيح، بمعنى أنّ مسؤولاً أو قائداً ضعيفاً وهشاً لا يملك شروط وسمات وخصائص القائد المبدع سيكون بمثابة كارثة على التنظيم أو الحزب إذا لم يتمّ تغييره واستبداله بسرعة… ولنا في واقع الحال أمثلة لا حصر لها بهذا الخصوص.
الشرط الآخر الهامّ والأساسي الذي جعل من السيد حسن نصر الله نموذجاً فريداً يحظى بالاحترام والتقدير عند الأعداء قبل الأصدقاء هو امتلاك شروط القوة الحقيقية التي تجعل لخطابه وكلامه معنى وقيمة فعلية… فلو كانت رسائل وتحذيرات السيد حسن نصر الله غير مستندة لقوة جدية وحاسمة ومجربة في ميدان الاشتباك الضاري، فإنها ستصبح مجرد ضجيج صوتي يجعل منها مهزلة أو فزاعة لا تخيف أحدا.ً
من هنا نلاحظ أنّ السيد حسن نصر الله لا يطلق وعوده أو تحذيراته أو تهديداته جزافاً وكيفما اتفق، بل إنه لا يطلق وعداً ولا يحذر أو يرسل رسالة قبل أن يكون قد امتلك الإمكانات اللازمة وشروط التنفيذ الناجح. هذا ما أثبتته تجربة حزب الله طيلة أعوام اشتباكه مع الاحتلال «الإسرائيلي». من هنا يصبح الوعد والتحذير معادلاً للوفاء والالتزام سواء تجاه الحلفاء أو على صعيد الردّ على الأعداء وتثبيت قواعد الردع الصارم وفرض قواعد الاشتباك بدون تهاون أو ميوعة أو تردّد.
لهذا فإنّ حزب الله بقيادة السيد حسن نصر الله لا يبني معادلاته وفق الهبوط السائد عربياً، بل يبنيها وفق شروط القوة ووفق المعايير التي تفرضها المواجهة مع عدو بقوة «إسرائيل»، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً ونفسياً وثقافياً…
هذه المصداقية والحكمة والقدرة والشجاعة في التنفيذ هي ما جعلت الكثير من «الإسرائيليين» يصدّقون ما يقوله السيد حسن نصر الله أكثر مما يصدّقون قياداتهم. هذه الحقيقة يدركها الأمين العام لحزب الله جيداً ويحرص دائماً على تأكيدها وترسيخها في الوعي الجمعي «الإسرائيلي».
يُضاف لذلك وعي السيد حسن نصر الله العميق خطورة الوقوع ضحية للغطرسة والتبجّح والاستعراض الفارغ، إنه يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، متى يحذر ومتى يبادر، وكلّ ذلك في سياق السيطرة على القول والفعل المستند إلى شجاعة وحكمة مع دقة في التقدير والتحليل بما يحول دون الوقوع في مصيدة الاستفزاز وردود الفعل غير المحسوبة.
لهذا نراه يعلن بكلّ ثقة ووضوح: أنّ «محور المقاومة في كلّ الجبهات في موقع يقول كلّ خياراتنا على الطاولة وكلّ خياراتنا مفتوحة، وكلّ ما يستلزمه وبعقلٍ وحكمة وشجاعة أيضاً، لأنّ أحياناً البعض يحاول أن يُخفي جبنه بالحكمة» السيد حسن نصر الله .
في النهاية أقول: لمن يتفق مع السيد حسن نصر الله أو يختلف معه، أن يقف ويتأمّل بهدوء وصدق، وأن يقوم بمقارنة عاجلة أو وجردة حساب سريعة بين نموذج القائد الذي يجسّده السيد حسن نصر الله، وتلك النماذج التي يعجّ بها الواقع العربي من قيادات وزعامات و.. و.. و…!
ربما… قد يفيد هذا في إثارة بعض النقاش من أجل الحديث عن معايير التغيير والتبديل في القيادات السياسية.. وغير ذلك ستبقى حالة الاستنقاع السائدة عند غالبية القوى السياسية الفلسطينية والعربية التي تواصل تجديد الخيبات وتبريرها أكثر مما تراكم عوامل القوة وشروط الانتصار والمصداقية.
فمن له عينان للنظر فلينظر.. ومن له أذنان للسمع فليسمع!