قراءة في كتاب» أقفاص تبحث عن عصافير» للشاعر محمد ناصر الدين
نسرين كمال
أن أقاربَ كتاباً شعرياً معناه أن أدخل في طقس صلاة خاصة. أن أنحني فأتلمّس قلب الشاعر وعينيه، مطلقة في الوقت ذاته نظرتي الحرّة كي ترفّ فوق المعاني أو تتغلغل بين السطور، وتاركة لقلبي أن يعلو ويسقط ويشهق ويبكي ويحلّق كما لو كان كائناً شعرياً لغويّاً. لكل كتاب صومعته المتفرّدة بأبوابها ومفاتيحها وسطوة بخورها الذي يدعوك منذ البدايات أن تقترب بتؤدة ولطف أو بعنف خلاّق لتكون شاهداً على أكثر الولادات عمقاً.
وكتاب «أقفاص تبحث عن عصافير» للشاعر محمد ناصر الدين، الصادر عن دار النهضة العربية، لا يشذّ عن القاعدة بل لعله يغمرك بجوه الأكزوتيكي الغامض النكهات والحاد، حيث الومضات المرة والحكيمة، واللاذعة، والحنونة التي تستفز أنامل السبر لالتقاطها كما لوأنها لوحات مصغّرة لبعض ما يمنحه لنا الوجود عفواً من إضاءات يرميها الشاعر بين يديك بتلك الخفة التي يعرفها من يأبى أن يؤطّر الكون في صورة أو يسكبه في قالب جامد وبذلك الدهاء المختفّي تحت ثوب بسيط ظاهرياً ممتدّ باطنياً لأغوار مفتوحة على السؤال.
ومضات محمد عصافير صغيرة صغيرة إنما أعشاشها المدى، منظّمة لكنها تخرق الروح أحياناً كسهام مسمومة وضالّة، والشاعر الذي يبدأ ديوانه بأعرف/لا أعرف يرمي الكرة في ملعبك منذ البداية، حيث إنه لا يعلم إن علم أو يعلم من هذه «اللا أعلم»، وحيث يدفعك للمشاركة في عمل القراءه والمعرفة ملقياً على عاتقك الكثير من ثقل الطريق.
«أعرف القليل عن الحب
فألمس من صدرك أول التلّ»
«أعرف الثلج
لا أعرف كيف يكسرني الربيع»
الشاعر الذي يكسره الربيع هو ذاته الذي يدرك أن الأشياء لا قياس لها وأن ما نراه هو ما لا نراه وهو أعيننا ووجهة النظر، هو ما يتبقى من حب بعد النسيان بعد تراكم الأشكال والألوان والأحجام في قلب يأبى أن يسمّى قلباً بعد حشره في الصناديق الضيقة وقوانين الفيزياء. القلب الذي يخرج من الحتميات العلمية ليستظلّ بحتمية نبضه الشخصي.
«بلى يا هيزنبرغ
أعرف حتمية عينيها
أعرف بدقة منبع النور..»
الشاعر الذي يضيئه الحزن
الذي هو الليل الممرّ لكل ما يلتمع خارج خناجر القتلة ومحاجر القتلى وأنياب الذئاب وخارج تراكم الغبار تلو الغبار في الأيام والأشياء وخلايا الأحياء.
«وحده الحزن يحمل أجنحة واضحة
إنه يخفق في قلبي كالزوبعة.»
الليل الذي هو نافذة للشعر الذي يتلامح دون أن يأتي كالحب الذي
«يلمع كوشم الشفاء على أكتاف المرضى
أتركه فحسب في راحة يدي
كالجمرة.»
الجمرة التي تحرق الشعراء والتي تزرع في جرحهم الورد السرّي.
«ذلك الجزء الليليّ مني
الممتلئ بالنجوم
والجاهز للموت
تحت الشمس الصاعدة
التي لا تعرف
إلا أن تكبر»
والشاعر يدعو الأشياء أن تشاركه في فعل الوجود فهو تارة يخاطب الأوراق والورود برفق حازم وطوراً يحمل شفرة حادة لشق جسد الأعماق المتذبذب .
وهو يطرق المنازل كل المنازل ببوهيمية حكيمة وتعلّق منعتق علّها تنطق بالسر ، غريبة كانت أو مألوفة، وإذ يخاطب الوحدة فهو يبدو كمن يحفر في الأقاصي رغم معرفته الضمنية بضيق الحياة وهشاشتها وخيبة يدينا أمام صلادتها وجوعنا أمام انكفائها وانزلاقها الخاطف.
«كنا نقول: لدينا متسع من الوقت
لنعرف هم
لم نعلم أنهم مثقوبون بالموت
مثل ساعة الرمل..»
كل شيء قابل للكسر يقول الشاعر، في كون إلهه «يحمل أفكاراً نظيفة»، لكنه يشاهد من بعيد وبحياد عقيم كل الأيادي الملطخة.
كل شيء قابل للغياب:
للموتى الذكرى
للأيام وجهتها
وللكتاب تلويحته الأخيرة مثل كف مودّعة لمسافر أخبرنا للتوّ أن سفينته المنتظرة
غرقى لا محالة ثم تركنا في أتون القلب حائرين: نعرف/لا نعرف شيئاً.
ناقدة وشاعرة لبنانية