في ظل الموت… بضعة آلاف من المسيحيين باقية لتحدي المتشددين في القامشلي
روبرت فيسك ترجمة د.أنطوان أبرط
على بعد 15 ميلاً فقط من خط المواجهة مع «داعش» الذي يضطهد إيمانهم، تجمّع مسيحيو القامشلي في كنيسة العذراء المقدسة لحفل زفاف مالك عيسى وإيلانا خاجو.
كانت العروس شقيقة الكاهن، والعريس مهندس كمبيوتر، وكانت في استقبالهم الزغاريد والترتيلات القديمة للكنيسة السريانية التي تُنشد من قبل جوقة من الشابات يرتدين جميعاً اللون الأبيض وصف من رجال الدين في أردية وردية وذهبية وقرمزية وسوداء اللون. إذا كنت في حاجة إلى التذكير بأن المسيحية كانت ديناً شرقياً وليس غربياً فإن إكليل مالك وإيلانا كان دليلاً كافياً على ذلك. كان هناك العديد من المباركات، ومجموعة من الشموع المضيئة، والمزيد من الزغاريد بين المصلّين.
ولكن الكنيسة كانت فقط نصف ممتلئة ومقاعدها الفارغة كانت تحكي حكاية مأسوية. فعدد سكان القامشلي من المسيحيين كان ما يقرب من 8000 نسمة، بقي منهم فقط 5000 نسمة والكثير منهم يتحدثون عن مغادرة البلاد.
إن تدمير وقتل المسيحيين حول الموصل في وقت سابق هذا العام كانت لحظة الرعب، وحتى الطريق الرئيسية إلى الجنوب من القامشلي إلى الحسكة خطير. المدينة معزولة في أقصى الشمال الشرقي من سورية، لها طوق من أفواج الجيش والميليشيات المحلية للدفاع عنها، فيما الأراضي باتجاه الشرق تحت سيطرة الأكراد السوريين المسلحين. لكن الحدود التركية مغلقة، وباقي الأراضي حول المدينة هي تحت سيطرة «داعش» وزملائه من الإسلاميين.
هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط هذه – كما هم يؤكدون بدأت فقط بعد الغزو الأنجلو أمريكي للعراق، والذين خططوا لهذا الأمر كما نعلم جميعاً كانوا مسيحيين.
يقول الأب صليبا: «عندما كان على المسيحيين الفرار من الموصل ووادي نينوى، اعتقدوا أن ما حدث في العراق سيحدث هنا في القامشلي»، وأضاف بعد مشاركته في خدمة الإكليل ليلاً: «»داعش» فعل أشياء كثيرة خلال هذه الفترة لتخويفنا، لذلك شعبنا يهاجر. بالطبع، ككنيسة لا نريد من أي شخص أن يهاجر، ولكن ماذا يمكننا أن نفعل؟» لقد فقد الأب صليبا بالفعل ما يقرب من نصف رعيته الخاصة…
لقد دعاني والدا العريس إلى حفلة العرس، ولكنني كنت بحاجة إلى التحدّث إلى الكهنة ، جالسين في غرفة اجتماعهم، وقد طرحوا أرديتهم جانباً، ولبسوا ثياباً سوداء تناسب مزاجهم بطريقة ما.
الجميع دانوا «داعش» والعديد ادعى كما أكثر مؤيدي الحكومة السورية – أن «الدولة الإسلامية» هي منتج أمريكي، وتهدف إلى تفتيت دول الشرق الأوسط.
أنا لست متأكداً من أن جميع هؤلاء الكهنة يمثلون شعوبهم فعلاً، لأسباب ليس أقلها أن بعض الذين فروا رغبوا في أن تكون الولايات المتحدة منفاهم من أجل الأمان.
قال الأب صليبا: «نحن لا نعتقد أن داعش يمثل الإسلام، لقد كان لدينا مجتمع متسامح في سورية وتعاملاتنا مع بعضنا بعضاً كانت على قدم المساواة لـ1400 سنة. إن مشروع تقسيم بلادنا هو إقامة دول ضعيفة بدلاً منها والتي سوف تكون غير قادرة على الدفاع عن نفسها. نعلم جميعاً أنه تم تمويل هذا من قبل دول الخليج».
كانت هناك مقارنات عدة بين الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 ومحنة المسيحيين اليوم، والذاكرة الحادة لعشرات الآلاف من المسيحيين السريان الذين كانوا أيضاً ضحايا مذبحة الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى.
بين الكهنة جلس الأب جبرائيل، وقد انعقدت عيناه من التعب، وجهه عابس ومنزعج منذ أن هرب من كنيسته السريانية في دير الزور في 29 تموز 2012. يقول: «لقد دمرت «النصرة» تماماً كنيستنا هناك وكل بيوتنا، كنّا نظن أننا سوف نكون قادرين على العودة في حوالى 15 يوماً… وهو ما كان يعتقده كثير من الفلسطينيين عندما فرّوا من بلادهم في عام 1948».
وتحدث بصوت عال كاهن آخر من شدة غضبه: «خسارة المسيحيين هذه هي شيء سلبي جداً. الدول التي تشجعهم على المغادرة لا تعرف مصالحهم الفضلى ضمنياً، إنهم يريدون تذويبهم في مجتمعاتهم، المشرق هو فسيفساء من الشعوب المختلفة والغرب لا يحب هذا. إذا كان الغرب يريد حقاً مساعدتنا، ينبغي عليه أن يساعدنا في البقاء هنا والعيش بكرامة، ولكن طالما هناك أزمة، شعبنا يريد أن يغادر «.
وماذا كان المسيح سيقول لو أنه شهد هذا النزوح الجماعي والتهديد الذي يمثله داعش؟ بسرعة طلقة أجاب الأب صليبا: «كان سوف يقول « اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون». كاهن آخر قال مقاطعاً: «كان المسيح سيبكي كما بكى من أجل القدس».
في وسط سورية، يقدّر رجال الدين أن ما يصل إلى 80 من السريان المسيحيين قد قتلوا، وقتل عدد أكبر بكثير ممن يخدمون في جيش الحكومة السورية. إن العظام المكسورة للأرمن، والتي من الممكن العثور عليها في حقول حول القامشلي أصبحت شبحاً لنا جميعنا مرّة أخرى.
وذكّر الأب صليبا زملاءه أنه في وقت الإبادة الجماعية، كان عدد القتلى الأرمن أكثر من ضعف عدد السريان المسيحيين في ذلك الوقت. «إن الغرب لا يستقبلنا لأن بلدانه مسيحية، فهي دول علمانية، إنه يريد تدمير المجتمع المسيحي هنا لأنه يعرف أن السريان لهم جذور عميقة هنا. في بضعة أجيال، سيكون قد اختفى السريان في المجتمعات الأوروبية».
«بعد أحداث الموصل، قالت فرنسا: سنأخذ المسيحيين، لكننا نعتقد أننا يجب أن نعيش هنا. حتى الآن، ونحن عندما نحاول أن نوصل رسالتنا إلى الخارج، وعلى رغم وسائل الإعلام، فإننا غير قادرين على ذلك. الآن «داعش» يحاول تدميرنا وبالتالي لن يكون لنا مكان في هذا البلد. لقد كنا نعلم في وقت مبكر أن هذا المشروع كان تحدياً وجودياً لنا في منطقة الشرق الأوسط».
الكنيسة السريانية لها جذور عميقة في القامشلي. نصف الأساقفة في المجمع الكنسي يأتون من هنا ويذكرون أن بشار الأسد، عندما اجتمع مع المجمع الكنسي في دمشق، قال لهم إن «سورية هي وطنكم، أينما كنتم». لكن الأسد لا يمكنه أن يوقف فرار المسيحيين أكثر من قدرته على حماية مناطق واسعة من شرق سورية.
قال أحد الكهنة: «لقد أعطينا سورية اسمنا»، وأضاف: «هذا جزء من تراثنا». فقط لو أن الرجال الذين ذهبوا إلى الحرب في العراق سمعوا بهذا الأمر.