قراءة سياسية في المشهد الاقتصادي اللبناني 1 معالم برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي جديد
زياد حافظ
الكلام عن ضرورة إصلاح اقتصادي في لبنان ليس جديداً. فالعديد من الكتاب والباحثين والناشطين في الحقل الاقتصادي في لبنان أعربوا، في مقالات ومحاضرات عدة، عن تلك الضرورة. وعلى ما يبدو فإنّ موضوع الإصلاح المذكور لا يتناول القضايا في العمق بل يكتفي ببعض الإرشادات والوصفات العامة أو الخاصة التي يرسم أفقها البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو المؤسّسات التابعة للدول المانحة بشكل عام. فبرنامج الإصلاح المنشود في مؤتمر «سيدر» لا يخرج عن ذلك المنحى، وبالتالي قد لا يعالج الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان في العمق الإصلاحي المطلوب بل يؤدّي إلى تكريس تابعية القرار السياسي في لبنان للخارج الدولي أو الإقليمي.
لكن أين ومتى يبدأ الحديث المجدي عن المستقبل؟ إذا أردنا، كلبنانيين، بناء دولة قانون يسود العدل والمساواة بين أبنائها علينا أن نعالج القضايا المصيرية، آخذين بعين الاعتبار التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والصراعات القائمة في المنطقة. فما هي القضايا المصيرية التي تحدّد مستقبل لبنان بغضّ النظر عن طموحات الإقطاع السياسي وتحالف حيتان المال وأمراء الحرب الذين يتكلّمون من دون حرج باسم اللبنانيين وإن أدّت سياساتهم إلى الخراب والاقتتال؟ لقد أثبتت الطبقة السياسية خلال العقود الستة الماضية عن عجزها في بناء دولة وذلك لعدة أسباب يجب أن نتوقف عندها. فمعالجة ذلك العجز هي الخطوة الأولى لبلورة برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي يلتفّ حوله أبناء الوطن الواحد.
المشكلة في لبنان بنيوية ونظامية، وهذه المشكلة، بشقيها البنيوي والنظامي، هي محصلة للتاريخ والتفاعل مع الجغرافيا والديموغرافيا. وهناك قراءات عديدة ومختلفة جذرياً للتاريخ ولتفاعله مع الجغرافيا والديموغرافيا يصعب علينا تجاهلها وإن كنا لا نوافق على كثير منها. فعدم وجود الرؤية المشتركة للتاريخ تجعل بناء رؤية مستقبلية مشتركة بين جميع أبناء الوطن مسألة في غاية التعقيد. البعض يعتبرها حتى مستحيلة وإنْ كنا لا نوافق على التشاؤم المفرط. على كلّ حال، طموحنا لبناء مستقبل لبنان لن يحدّده الخيال فقط بل الإرادات أولاً وقبل كلّ شيء، وثانياً صنع الإمكانيات المادية والفكرية المطلوبة لتحقيق تلك الإرادات. فالاعتراف بتعقيد الأمور وتركيبها يفرض علينا التواضع في طموحاتنا وإنْ كنا من الذين يعتقدون أنّ حدود الطموح هي حدود الخيال. فبمقدار ما نتخيّله نستطيع أن نطمح إليه. البعض يعتبر أنّ ذلك الاختلاف من سمات الديمقراطية ومن ميزات التنوّع الموجود في لبنان. لسنا من ذلك الرأي، فالاختلاف على المستقبل ليس ترفاً أو ميزة بل كارثة.
بنيوية المشكلة تكمن في أزمة الهوية للوطن. قضية الهوية صعبة ومعقدة للغاية بسبب المصالح التي كرّسها الاستعمار الغربي والذي كان هدفه ولا يزال تفتيت المنطقة للسيطرة عليها وبالتالي كانت قضية الهوية المدخل الطبيعي إلى زرع فكرة التمايز عن الآخر والتمييز بين أبناء الوطن، بين طائفة وأخرى، وبين المناطق، وبين المدينة والجبل. وإذا كان البعض يعتبر أنّ الوعي بالانتماء الطائفي والمذهبي هو المدخل إلى الهوية تاريخياً فإنّ ذلك الوعي تزامن مع خطاب التحديث الذي تفوّه به التحديثيون اللبنانيون في القرنين التاسع عشر والعشرين وكأنّ مسألة الهوية وجه من وجوه الحداثة. من جهة أخرى، تلازم الوعي الطائفي والمذهبي مع المصالح الجديدة التي خلقها الاستعمار الغربي في لبنان بغية إيجاد موطئ قدم لتحقيق أهدافه في لبنان وفي المنطقة. على كلّ حال فإنّ تلك القراءة السريعة للتاريخ هي الخلفية التي نرتكز عليها لتحديد رؤيتنا المستقبلية للبنان.
القيادات السياسية في لبنان ابتدعت فكرة سياسية ألا وهي «الديمقراطية التوافقية»، أيّ بمعنى آخر الصيغة المتقدّمة للواقع الطائفي لاقتسام السلطة ومغانمها والحفاظ على التوازنات الداخلية ولكن ليس لبناء الدولة رغم إعلانها عن ذلك. فالمشكلة الأساسية التي تواجه بناء الدولة الحديثة التي تحمي الوطن والمواطن وتفرض المساءلة والمحاسبة في إطار دولة القانون هي أنّ القوى السياسية التي تزعم أنها تتكلم باسم اللبنانيين هي قوى ذات منبت طائفي في الأساس، باستثناء القوى والتيارات القومية العربية والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي وتجمُّع اللجان والروابط الشعبية اللبنانية ومن يدور في فلك هذه القوى. من هنا اعتراض هذه القوى على مختلف مشاريع قوانين الانتخاب التي تمعّن في تعميق الانقسام الطائفي والمذهبي حفاظاً على مصالح الزعامات التي ليس لديها أيّ برنامج سياسي سوى الوصول إلى السلطة والبقاء فيها قدر الإمكان! فقانون النسبية المعمول به في الانتخابات الأخيرة أجهض فكرة المواطنة للحفاظ على الطائفية والمذهبية وقد فتح الباب لبعض القوى فقط التي همّشها القانون الأكثري. فلا بديل، في رأينا، عن قانون انتخاب يعتمد النسبية خارج القيد الطائفي وعلى أساس الدائرة الواحدة أو على الأقلّ على قاعدة المحافظة كما أنّ تسجيل قائمة الناخبين تكون على قاعدة الإقامة وليس مسقط الرأس.
يجب أن يركّز الخطاب السياسي الوطني المطلوب على الوحدة والمصير المشترك والتكامل والتشبيك السياسي والاقتصادي مع الدول العربية المجاورة أولاً وسائر الدول العربية لاحقاً وحتى مع بعض دول الإقليم كتركيا وإيران، وهذا ما ترفضه شريحة واسعة من النّخب الحاكمة لها مرجعيات خارجية، إنْ كانت خليجية أو غربية. أما بالنسبة لنا، فلا تنمية حقيقية في لبنان خارج ذلك التكامل في البنى التحتية والقاعدة الإنتاجية التي يجب تنميتها وإلاّ استمرّ لبنان في مطبّ الاقتصاد الريعي والخدماتي الذي يعمّق الفجوات الاقتصادية ويعمّم ثقافة الفساد.
لم تكن القوى الطائفية التي تشكل النخبة السياسية الحاكمة، سواء كانت في الحكم أو خارجه، معنية، في أيّ يوم من الأيام، بإنشاء دولة حديثة بالمعنى المتفق عليه في مجمل الأدبيات السياسية. صحيح أنّ تلك القوى ارتدت من وقت إلى آخر الخطاب التحديثي وأدخلت في مصطلحاتها عبارات مثل «إلغاء الطائفية» و»مكافحة الفساد» و»تنمية متوازنة»، إلا أنّ تلك المصطلحات ظلّت من دون مضمون يذكر أو آلية لتحويلها من شعارات إلى برامج سياسية واقتصادية واجتماعية فعلية. هناك الحقبة الشهابية القصيرة المدى والتي حاربها تحالف «البيوت السياسية» بعد نكسة 1967 لأنّ الرئيس الراحل فؤاد شهاب كان قد أقدم على خطوات ملموسة لتمكين الواقع الهشّ آنذاك للبنية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان ولتحصين ديمومة الوطن ككيان عبر إعطاء انطباع بأنّ الوطن لجميع أبنائه وليس لفئة معينة أو منطقة معينة. لم يُكتَب لتلك الحقبة أن تستمرّ فسرعان ما تلتها حقبة معاكسة للتغيير بقيادات سياسية غير ملهمة ساهمت في دقّ المسمار في نعش الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان وأوصلت الواقع الاجتماعي إلى حافة الانفجار وسرعان ما حصل ذلك عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي ما زلنا نعيش تداعياتها حتى الآن.
وهنا نلفت النظر ونشدّد على أنّ الاستقرار السياسي اللبناني رهن الاستقرار في المنطقة. الحقبتان الوحيدتان اللتان حصل فيهما شيء من الاستقرار هما أولاً الحقبة الشهابية، وذلك بسبب الاستقرار الذي ساد خلال الحقبة الناصرية في المنطقة وضعف دول النفط العربية في تقديم أيّ نموذج بديل يستهوي الجماهير العربية، وثانياً حقبة ما بعد الطائف حتى 2010. أما الحقبة الثانية فكانت عبر معادلة المقاومة والشعب والجيش حيث شهد لبنان استقراراً لافتاً على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني، رغم محاولات خارجية وداخلية لكسر تلك المعادلة والمستمرّة حتى اليوم، حيث تفرض الشروط الخارجية لتنمية اقتصادية كنزع السلاح من المقاومة وحصره بـ»الشرعية». دخل لبنان مرحلة اللااستقرار مع فقدان الاستقرار في المنطقة إثر ما سُمّي بالربيع العربي والحرب الكونية على سورية.
ومن تداعيات ضعف الدولة المتعمّد غيابها عن المناطق المختلفة في لبنان، خاصة في الجنوب والشمال والبقاع، وغياب الخدمات الأساسية للمواطن، كما أنّ الدولة الضعيفة رفعت إلى مستوى العقيدة مقولة «إنّ قوة لبنان تكمن في ضعفه». وبالتالي عجزت الدولة عن الدفاع عن الأرض والمواطن وتقلّص دورها في التنازع على المكتسبات السلطوية فقط لا غير. وإن كنّا من الذين لم يتمنّوا في يوم من الأيام استبدال دور الدولة الرسمية التي تقوم بمهامها الدستورية بدور قوى منبثقة عن المجتمع والواقع اللبناني، فليس من الغريب في الحالة المأساوية اللبنانية أنّ تنشأ قوى تملأ الفراغ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني في الدفاع عن الوطن. أما الجيش اللبناني الذي تمّت إعادة بنائه بعد اتفاق الطائف على قاعدة سليمة من جهة العقيدة القتالية وتحديد هوية العدو الفعلي للبنان وذلك تحت إشراف العماد إميل لحود الذي أصبح في ما بعد رئيساً للجمهورية، فإنّ النخب السياسية الحاكمة والمتحكّمة بالتفاهم مع القوى الإقليمية والدولية لم تقدم طيلة الفترة السابقة وحتى هذه اللحظة على تزويده بما يلزمه للدفاع عن أرض الوطن، إضافة إلى فقدان تاريخي متعمّد لاستراتيجية دفاعية عن الأرض والمواطن. والجدير بالذكر أنّ التغيير الذي حصل في تصحيح عقيدة الجيش كان في الدفاع عن الوطن وليس في الدفاع عن مصالح النخب الحاكمة كما كان الحال قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. ذلك التغيير استطاع أن يستوعب الواقع الجديد الذي أفرزه ظهور المقاومة الوطنية وأن يبتدع أرقى صيغ التكامل في الأدوار بين الجيش والمقاومة في الدفاع والصمود وفقاً لمقتضيات المرحلة. هذه العقيدة أصبحت مستهدفة من قبل القوى الخارجية التي لا تريد أن تتجذّر ثقافة المقاومة في لبنان، سواء عبر الجيش اللبناني أو عبر مقاومته الوطنية الشعبية. فهناك دعوات متكرّرة إلى تغيير تلك العقيدة كشرط من عدة شروط لتجهيز الجيش بـ «أحدث المعدات والعتاد والتدريب». والخلفية الذهنية التي تستند عليها مطالبة تغيير عقيدة الجيش هي العودة إلى البنية الطائفية المذهبية التي ستكرّس الانقسام المذهبي وتُضعف قدرات الدولة على إنشاء المؤسّسات الوطنية لحماية الوطن، شعباً وأرضاً. ونرى اليوم تجدُّد الهجوم على منظومة سلاح المقاومة في إطار مؤتمر «سيدر» الذي لن يمنح القروض إلاّ بعد مناقشة وتنفيذ «استراتيجية دفاعية» مفادها أوّلاً وأخيراً نزع سلاح المقاومة حيث لا يبقى سلاح خارج «الشرعية». فالمعادلة التي تُطرح في مؤتمر «سيدر» هي لا نمو ولا تنمية ولا تسليح للجيش إلاّ مع نزع سلاح المقاومة. فـ»سيدر» يخدم فعلياً العدو الصهيوني عبر ضرب القوّة الردعية التي حقّقتها المقاومة والتي حافظت ولا تزال تحافظ على مصالح لبنان الحيوية، خاصة بالنسبة إلى مياه الجنوب والثروات الغازية والنفطية.
هذا هو الإرث المدمّر للمنظومة الفكرية التي سادت ولا تزال تسود عقول النخب السياسية الطائفية المهيمنة في لبنان. وبالتالي أصبحت مصداقية الذين يطالبون بدولة المؤسّسات وينتقدون «الدولة ضمن الدولة» فارغة من أيّ مضمون. كما أنّ المطالبة بنزع سلاح المقاومة في ظلّ غياب الخطة الدفاعية المتفق عليها أصبحت المطلب الأميركي الصهيوني الذي لم يكن في يوم من الأيام يريد ويفكّر في مصلحة لبنان. بل على العكس، عندما برهنت القوى الشعبية اللبنانية قدرتها على الدفاع عن أرضها تعاظمت الدعوات الإقليمية والدولية والمحليّة إلى القضاء على ظاهرة المقاومة وبنيتها التحتية وأهمّ من ذلك على ثقافتها المناهضة للخضوع لإملاءات العدو وحاميته.
من جهة أخرى، هناك إرث آخر للمنظومة الطائفية السائدة والتي تساهم في استمرار الدولة الضعيفة وهو وجود مؤسّسات مركزية ضعيفة في توجيه مسار الأمور إلا أنها المصدر الرئيسي للريع الذي يتصف به الاقتصاد اللبناني. فالامتيازات التي تمنحها تلك السلطة لمحازبي القيادات الطائفية هي التي «تصنع» الثروة وتوزعها على الموالين لها. والجدل القائم حول قيام «دولة حديثة» حديث فيه الكثير من الالتباس، خاصة أنّ الخطاب السياسي العائد له يتكّلم مرة ثانية عن رفض وجود «دولة ضمن دولة»، في إشارة واضحة إلى حزب الله وسلاحه ولما يمكن أن يشكل قوة رادعة للاستئثار بمغانم السلطة لمصلحة فريق مهيمن وضمن قوانين اللعبة الصفرية. القضية هي في الأساس الصراع على السلطة وتقاسم مغانمها وليس على مشروع دولة المؤسّسات والقانون. فأمراء الحرب وحيتان المال يختبئون وراء مسألة نزع سلاح المقاومة لتثبيت مكانتهم ومصالحهم الداخلية والخارجية فقط لا غير واستحقاق واستمرار الدعم الخارجي لهم. فكيف يمكن أن يثق المواطن اللبناني بأقوال زعمائه الطائفيين الإقطاعيين وأمراء الحرب والمال الذين تولّوا السلطة طيلة سنوات «الوصاية» وساهموا في هدر أموال الدولة وفي تراكم الدين العام الذي وصل إلى مستويات قياسية؟ على كلّ حال إنّ تركيبة النظام الطائفي هي المسؤولة عن تغييب دور الدولة والاكتفاء بمظاهرها فقط والتركيز على تقاسم السلطة.
النظام الطائفي في لبنان، كأيّ نظام فئوي في الوطن العربي هو نظام شمولي بامتياز حيث تغيب صفة المواطنة لتحلّ مكانها صفة الرعية. فالفرد في النظام الطائفي مغيّب دوره لمصلحة الطائفة ولمصلحة زعيم الطائفة ولعشيرته، وحقه في التعبير مكبوت بحجة ثقافة عقدة الخوف أو عقدة الغبن أو عقدة الإحباط. فلا يجوز للفرد أن يعبّر عن رأيه إلاّ بمقدار ما يتلاءم خطابه مع مصلحة الزعيم. وبالتالي يصبح النظام الطائفي معطّلاً للمشاركة الفعلية للبنانيين، إن لم نقل إنه مناهض لها. من هنا يمكن وصف النظام اللبناني المنبثق عن اتفاق «الطائف» بأنه نظام معدوم المشاركة الفعلية للمواطنين. والبدعة المبتكرة أي نظام «التوافق الديمقراطي» ليست إلاّ وهماً لاستمرار عهد وصاية الزعيم الطائفي ونفي بناء الدولة الحديثة. وحتى ضمن نظام توزيع السلطات والمنافع بين الطوائف والمذاهب، هناك مشكلة «التمييز» بين الطوائف والمذاهب، ما يخلق «تراتبية» في الأهمية المعطاة لمختلف الطوائف. فهناك بالفعل «ابن ست وابن جارية» تحت سقف واحد. فهل اقتتل اللبنانيون طيلة 30 عاماً للوصول إلى تلك النتيجة الهزيلة والمهينة لإنسانية اللبنانيين؟
هذه القوى الطائفية لا تزال حتى الساعة تتحكم بمصير اللبنانيين، وإذا كانت موازين القوى في الماضي القريب والبعيد تفرض نوعاً من المحاصصة في توزيع مغانم السلطة إلا أنّ قراءة بعض القيادات المتسلطة على الواقع السياسي القائم يقودها إلى تجاهل العرف الذي تحكّم بسلوك القيادات الطائفية السياسية حتى الماضي القريب. وبالتالي تتجاهل حتى أبسط مرتكزات نظام الطائف الذي من أجله تمّ تعديل الدستور. لسنا في إطار الدفاع عن نظام الطائف فهو يمثل كلّ ما كنا نعارضه بالنسبة للإصلاح السياسي. ولكنّ موازين القوة الإقليمية قبل الحرب الأولى على العراق أطاحت بطموحات التغيير وأتت بتركيبة سياسية لمصلحة أمراء المال والحرب وتحالفهم. وإذا كانت هناك شعارات أو عناوين داخل اتفاقية الطائف تقضي ببعض الإصلاحات السياسية كإلغاء الطائفية سرعان ما تبدّدت تلك الآمال عندما استتبّ الأمر لتحالف أمراء الحرب وحيتان المال، بل حتى يمكن التكلم عن انقلاب على الطائف، كما أشار ألبير منصور في مؤلفه حول الموضوع. فكيف يمكن أن تلغى الطائفية السياسية من قبل من هم مدينون بوجودهم السياسي إلى التركيبة الطائفية؟ فكافة مؤسسات الدولة معطلة ولا ينفع تبادل التهم بالمسؤولية عن ذلك التعطيل. في مطلق الأحوال هناك تجاهل كامل لمعاناة المواطن اللبناني وليس هناك من مشروع مستقبلي يمكن التمسُّك به لتبرير وتمكين الصمود خلال الأزمة الراهنة.
المطلوب في هذه المرحلة أمران: أولاً المحافظة على السلم الأهلي عبر عدم الانجرار إلى صراعات طائفية ومذهبية تغذّي الغرائز. ثانياً الحفاظ على سلاح المقاومة طالما لم يتفق اللبنانيون على خطة دفاعية في مواجهة اعتداءات العدو الصهيوني. والسياسة الدفاعية التي يتكلّم عنها البعض تهدف فقط إلى نزع سلاح المقاومة بينما السياسة الدفاعية المطلوبة تتطلّب تسليح الجيش بأسلحة نوعية يرفضها الكيان الصهيوني، ومعه للأسف بعض القوى السياسية في لبنان. كما أنّ التسليح يمكن أن يأتي من مصادر غير المصادر الغربية وهو مرفوض من قبل النخب المتحكّمة في لبنان والخاضعة للإملاءات الأميركية والأوروبية. وهذه المرحلة قد تطول بسبب التدخل الخارجي في الملفات اللبنانية وبالتالي علينا أن نفكر جدياً في مشروع مستقبلي يُعرض على اللبنانيين لبعث الأمل في هذا الوطن. فالهجرة المتزايدة للشباب والعقول قد تفقد أهم ثروة في لبنان.
آن الأوان لتجاوز النظام الطائفي
إنّ مقومات الحفاظ على السلم الأهلي وعلى المقاومة تكمن في تكريس الوحدة الوطنية أولاً. هذه الوحدة لن تتحقق إن لم تحسم نهائياً قضية الهوية والانتماء القومي والوطني. والمقصود هنا عروبة لبنان بالتزامه بقضايا الأمة التي تحدّدها الشعوب أولاً وأخيراً والانتماء إلى وطن وليس إلى طائفة. إذن، قضية الهوية هي المدخل إلى الوحدة الوطنية. الخطوة الثانية هي التفكير الجدي بإلغاء النظام الطائفي وبناء نظام يحفظ حقوق المواطن والوطن. أما الطوائف فلن يحميها إلا السلم الأهلي في ظلّ دولة القانون والوحدة الوطنية والمحافظة على الوطن والمواطن. آن الأوان أن يتجاوز اللبنانيون النظام الطائفي الذي لم يحم في يوم من الأيام الطوائف وأفرادها. تاريخ لبنان المعاصر مليء بالمغامرات «غير المحسوبة» للقيادات الطائفية التي أدت إلى اقتتال بين اللبنانيين لمصلحة الزعامات الإقطاعية الطائفية. آن الأوان أن ينتقل اللبنانيون من ثقافة القرن التاسع عشر إلى ثقافة القرن الحادي والعشرين. القضية ليست في النفوس كما كان يردّد بعض الزعماء بل هي موجودة في غياب النصوص المؤسسة لنظام جديد والمغيبة عمداً لمصلحة الطائفيين. هنا يكمن دور القانون في التغيير الاجتماعي والثقافي وبطبيعة الحال في النظام السياسي.
وإلغاء النظام الطائفي يترافق مع إصلاح اقتصادي واجتماعي. هناك ضرورة لتغييرات جذرية في البنية الاقتصادية المبنية على تقاسم الريع الناتج عن قطاع الخدمات وعن الامتيازات الممنوحة من أرباب النظام على الأنصار والموالين. هناك من يدافع عن قطاع الخدمات ويعتبر أنّ القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة لا جدوى منها في إنتاج الثروة وأنّ الدور التاريخي للبنان كان ولا يزال في قطاع الخدمات. هذه الرؤية غير دقيقة وتشوّه دور قطاع الخدمات. فذلك القطاع يعرف أيضاً بالقطاع الثالث، الأول هو الزراعي والثاني هو الصناعي. وقد نشأ أصلاً لخدمة القطاعين الأولين ولكن مع الوقت أوجد لنفسه دينامية خاصة به تجاوزت المهمة الأصلية التي من أجلها وجد. لسنا في إطار إعادة مفهوم دور قطاع الخدمات إنما ما نريد أن نشير إليه هو أنّ القدرة التنافسية لذلك القطاع في لبنان منوطة بإمكانية خلق قيمة مضافة لكافة النشاطات الأخرى. أي أنّ قطاع الخدمات الذي يطمح أن يستعيد دوره الريادي في المنطقة لا بدّ له من أن يتطوّر ويدخل التكنولوجيا المتطوّرة ويبدع في خلق خدمات جديدة يقودها ويمكّن القطاعات الأخرى من التقدّم والتطوّر. واقع الأمر أنّ قطاع الخدمات في لبنان، كما في سائر الدول العربية، خاصة في تلك الدول التي تتمتع بفوائض مالية بسبب ارتفاع أسعار النفط، هو قطاع لتدوير تلك الفوائض الريعية وليس لخدمة قطاعات منتجة. فالاتكال على قطاع النفط في الجزيرة العربية وفي الخليج أوجد ثقافة مناهضة للمجهود المنتج طالما كان ممكناً استيراد ما هو مطلوب دون تحمّل مشقة الجهد المنتج. هذا شأن الدول العربية النفطية، أما لبنان فعليه أن يفكّر منذ الآن إلى حقبة ما بعد النفط سواء نضب النفط أو تمّ اكتشاف مصادر بديلة. في مطلق الأحوال وفي الحالة السائدة فإنّ قطاع الخدمات في لبنان محكوم بتكثيف الاستثمار في التقنيات وتأهيل العاملين بها وابتداع الخدمات الجديدة إذا أراد أن يستعيد مكانته الريادية، ما قبل الحرب اللبنانية، ويحافظ عليها. هنا شاع مصطلح جديد وهو مجتمع المعرفة والاقتصاد المعرفي الذي أُريد له أن يكون محصوراً بالاقتصاد الرقمي والافتراضي، بينما ندعو إلى نشره في القطاعات الإنتاجية التقليدية مع التركيز على النشاطات التي تولد قيمة مضافة مرتفعة.
إنّ بناء القطاعات الإنتاجية وتطويرها وتوزيعها بشكل عقلاني بين المناطق اللبنانية بغية إيجاد نمو وتنمية متوازنين هو مطلب اقتصادي وسياسي واجتماعي في آن واحد، إضافة إلى التفوّق النسبي المكتسب عبر العقود وحتى القرون في عدد من القطاعات في لبنان، فهناك تقنيات جديدة وتكنولوجيا حديثة تُمكّن القطاع الزراعي أن يتجاوز ضيق المساحة الجغرافية وصعوبة الزراعة في الجبال. بل يمكن أن نضيف إلى ذلك الشروع في الصناعات الغذائية الزراعية فيما لو كانت كلفة إنتاج المزروعات تجعلها غير قابلة للمنافسة مع السلع الآتية من سورية مثلاً. المقصود هنا أنّ تطوير القطاع الزراعي قد يكون منوطاً بتطوير الصناعات الغذائية والتي يمكن تصديرها. التركيز سيكون على الجودة المتفوقة بكلفة معقولة. في مطلق الأحوال هذا ما يجب بحثه عند المسؤولين عن تطوير القاعدة الإنتاجية سواء كانوا من القطاع العام أو الخاص.
أما القطاعات الإنتاجية والخدماتية في آن واحد فعلى لبنان أن يبني على ما أنجزه في العقود السابقة سواء في قطاع التربية والتعليم أو في قطاع الخدمات الصحية والتطبيب. قد يستطيع لبنان أن يسترجع مكانته التربوية الريادية في الوطن العربي التي فقدها خلال الحرب الأهلية ولم يقدم على تطويرها بعد الطائف. فمن جهة أقدمت دول الجزيرة والخليج على إنشاء بنى تحتية للتعليم تنافس ما كان يقدمه لبنان قبل الحرب. إلا أنّ المساحة الجديدة التي يمكن أن يسيطر عليها لبنان هي في التوجه والتركيز في قطاع التعليم العلمي والتي لا تزال مهملة في الأنظمة التربوية العربية، كما أشار تقرير التنمية البشرية العربي لبرنامج التنمية للأمم المتحدة. القيمة المضافة للقطاع التربوي في لبنان تكمن في التوجه نحو العلوم. قد يقول البعض إنّ «السوق الوظيفي» في لبنان وفي الدول العربية قد لا يستوعب أعداداً كبيرة من المتخرجين في العلوم بسبب ضآلة البنية الصناعية التي قد تستوعب تلك الكفاءات إلا أننا على يقين بأنّ العرض هو الذي سيخلق الطلب وأنّ مستقبل لبنان هو في قطاع الإنتاج والخدمات التكنولوجية المتقدمة. فالاستثمار الاستراتيجي هو في العقل اللبناني وتمكينه من الابتداع والاختراع. هنا لا بدّ من التوقّف عند ثنائية القطاعين العام والخاص. إننا ندعو، من دون مواربة وخجل، إلى إعادة الاعتبار إلى القطاع العام والتخطيط المركزي رغم كلّ الحملات التي توجّه ضدّه. فالقطاع العام في دولة خارج القيد الطائفي يستطيع أن يقوم بدوره الريادي في النشاط الاقتصادي والتأهيل البشري بالمشاركة مع القطاع الخاص مع القوّامة للقطاع العام، وفقاً لخطّة مركزية يضعها وتوافق عليها الحكومة. فالقطاع الخاص هدفه الربح أوّلاً وأخيراً، بينما القطاع العام هدفه خدمة المجتمع مهما كلّف الثمن.
أما على صعيد الإصلاح الاجتماعي، فلا بدّ للنخب الحاكمة الجديدة أن تفكر بجدية في إعادة توزيع الثروة من الطبقات الميسورة إلى الطبقات الوسطى والفقيرة عبر إصلاح الضمان الصحي وإيجاد برامج مستكملة للضمان الاجتماعي بما فيها تعويضات البطالة والشيخوخة ومعالجة مختلف قضايا التربية وتوفير المدارس والكتب بأسعار معقولة والحدّ من «تجارة» المدارس والمؤسّسات التي تدّعي التربية والتعليم. ونعتبر أنّ الأولوية يجب أن تكون للمدرسة الوطنية والجامعة اللبنانية بكافة فروعها. كما أنّ على تلك النخب إيجاد الحوافز لتوفير المزيد من فرص العمل لدى القطاع الخاص والمساهمة في رفع مستوى المهارات المطلوبة لجعل المؤسّسات على مقدرة تنافسية إقليمياً ودولياً.
إضافة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لا بدّ للنخب الحاكمة أن تواجه مسألة الإصلاح الثقافي. فالقضاء على الطائفية، مثلاً، لن يقوم فقط على إصدار نصوص بل يستلزم إصدار برامج للتغيير في العقل اللبناني الذي ينخره سوس الطائفية حتى العظم. كما أنّ ثقافة الفساد المتلازمة مع الفقر والطائفية جعلت من الفساد قيمة «محترمة» متجسّدة في أدبيات المجتمع اللبناني كمقولة «شاطر»، في إشارة إلى الفاسد أو وصفه بأنه «بيعرف يدبّر حاله». فثقافة المال طغت على كافة الاعتبارات والقيم، وبالتالي لا بدّ من الحدّ من تفشي تلك الثقافة، إن لم نقل إلغاءها. والطائفية كنظام سياسي هي وجه من أوجه الفساد حيث الانحراف عن مفهوم المواطنة هو فساد بامتياز. فلا مواطنة في رحم النظام الطائفي، وبالتالي نرى العلاقة العضوية بين النظام الطائفي والفساد والنظام الريعي للاقتصاد اللبناني. فكلّ واحد يغذّي الآخر ويدعمه وبالتالي تكتمل الدائرة المفرغة. فكلّ تلك المسائل مترابطة ومتلازمة والمؤسف أنها مغيبة كلياً في الخطاب السياسي اللبناني. ربما هذه حال اللبنانيين الذين لن يحصدوا في آخر المطاف إلاّ ما يزرعون.