مكسر العصا…!
محمد ح. الحاج
في الدول كما بين الأفراد لا بدّ من وجود الضحية، كبش فداء، أو يمكن القول إنه مكسر العصا لإرهاب الغير وهي رسالة ذات مغزى، ونتساءل في واقعنا المشرقي لماذا يكون لبنان هو من يحمل الرسالة أو أنه الضحية ومكسر العصا؟
لبنان ومن لحظة تأسيسه العام 1926 لم يمتلك قراره السياسي بالمطلق، بل بقيت تتنازعه علاقات سياسيّيه وارتباطاتهم الخارجية، هذا الواقع فرض عليه سلوكاً تناقض مع مصالحه في كلّ المعارك التي وقعت على أرضه، بين أبنائه، وحتى بينهم وبين العدو الخارجي، إذ لم يشكلوا موقفاً واحداً موحداً حتى بمواجهة هذا العدو التاريخي.
بعد أشهر طويلة من العطالة السياسية، والركود الاقتصادي والخراب الاجتماعي لم يتبيّن لأغلبنا مصدر الدخان الأبيض، الاذن بتشكيل الحكومة اللبنانية، وبطبيعة الحال هي ليست حكومة وفاق وطني، ولا مصالح وطنية، بل جاءت على قاعدة المحاصصة والترضيات الطائفية والمذهبية، لا بل تجاوزت ذلك لتعطي صورة عن الحدّ الأدنى لتوافقات دولية بعد احتساب حصة كلّ طرف وعلاقاته، وأكثر من ذلك الحصول على المكافأة الرشوة التي اعتاد عليها السياسيون في هذا البلد لتكديس ما يمكن على حساب إفقار العامة من الشعب وتفاقم الانهيار المجتمعي وانتقال عدواه إلى الجوار حيث تريد القوى المحلية والدولية.
الناس على مذاهب ملوكهم، أو حكّامهم، هذا لا يكون في لبنان لوحده، بل ينطبق على الكثير من الدول والكيانات المستحدثة خلال القرن العشرين وبعد الحروب الكبرى، وعبر مسيرة هذه الدول تميّز كلّ منها بارتباط وثيق مع دولة كانت في زمن ما الوصية عليها، فهذا الأردن يرتبط ببريطانيا كما لبنان بفرنسا ومثله تونس وتشاد وليبيا بإيطاليا، كما ارتبط قيام الكيان الصهيوني بكلّ من فرنسا وبريطانيا، وانتقل حبل السرّة منهما إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتأثر كلّ من هذه الكيانات بمحيطه الأقرب طالما استمرّت العلاقة الحسنة بين هذا الجوار ودولة الوصاية، وحده لبنان تميّز عن الكيانات الأخرى بتعدّد روابط التبعية فيه لأكثر من طرف بتعدّد وجهات نظر سياسيّيه وارتباطاتهم الإقليمية والدولية، فكان للمدّ العروبي زمن عبد الناصر تأثيره الفاعل، وخصوصاً زمن الوحدة، في الوقت الذي ارتبط جزء آخر من اللبنانيين بفرنسا وحتى بريطانيا، وحديثاً انتقل الولاء العروبي من مصر التي أضحت تابعاً أميركياً إلى السعودية الأكثر مالاً والتي تمكّنت أن توصل إلى سدة الحكم في لبنان أغلب الموالين لها بدعم مالي غير محدود وصل في حدّه الأعلى إلى الجماعات العاملة في خدمة الكيان الصهيوني وما كان ذلك مفاجئاً بعد سقوط الأستار حتى ورقة التوت.
انّ جوهر الصراع البيني العربي العربي يتمحور حول العلاقة مع الغرب والموقف من الكيان الصهيوني، ومن يقول بغير ذلك إنما هو مضلَّل أو مضلِّل، لأنّ الزمن تجاوز صراع المذاهب الذي يقولون به أو يتسترون خلفه، لم يكن «الفارسي الشيعي» عدواً يوم كان أداة أميركية وحارساً من حراس الكيان الصهيوني، اليوم فقط بعد الثورة، انتقل من موقع العداء للقضية الفلسطينية إلى موقع النصير لحقوق الشعب الفلسطيني، ولأننا كسوريين تعنينا القضية الفلسطينية ونعتبرها أولوية كان موقفنا من الثورة الإيرانية منسجماً لخدمة قضيتنا المركزية، لكن هذا الموقف غير المناسب لأميركا المناقض للمشروع الصهيوني، وعليه يمكن تقييم المواقف العربية الأخرى، وإذا كانت أميركا هي من دفعت العراق لمحاربة إيران واستنزفت البلدين فلأنها معنية بخدمة مشروعها الأهمّ، كان على الدول العربية بدل أن تدفع نفقات وتكاليف الحرب، كان عليها أن تقف
إلى جانب منعها والاستفادة من موقف الحكم الجديد لاستعادة الحقوق لو كانت غاية هذه الدول استعادتها أو كانت القضية ضمن برامجها وليس تعهّدها حماية الكيان وتمييع المواقف الجدية التي تعمل لمجابهته.
لقد وصل الأمر ببعض الدول العربية أن تشارك في تدمير دول عربية أخرى ليس لتناقض بينها أو تنازع مصالحها، بل لأنها تخضع لأوامر وتوجيهات القيادة الأميركية وهذه ترى في الدول المستهدفة خطراً محتملاً على مشروعها لا بدّ من إضعافه أو القضاء عليه، ما حصل في تونس كان تمهيداً للقفز إلى ليبيا، وما حصل في العراق شكل الخطوة الأولى في المسيرة التآمرية على الشام، وما حصل في السودان كان رسالة موجهة لمصر تلاها أحداث تخريبية ومشاكل أمنية واقتصادية أوصلت على أثرها واحداً ممن هيّأتهم دولة الظلّ الماسونية إلى قيادة دولة كانت تقود أغلب دول العالم العربي وهذه ميزة فقدتها منذ زمن السادات، لبنان الصغير وحده يختزل كلّ المواقف، يجسّد واقع الدول العربية، كلّ الكيانات، وبسبب ذلك لا يمكن أن يكون فيه صاحب قرار مستقلّ يخدم لبنان ومصالحه ومجتمعه واقتصاده، ومع أنّ الاقتصاد اللبناني يرتبط بشكل أساسي في الانفتاح والتواصل مع بيئته الأمّ الشام فقد فرضوا عليه القطيعة والعمل ضدّها تحت شعار النأي بالنفس ويدرك كلّ سياسيّيه أنّ ذلك أثر على المجتمع اللبناني بكلّ طبقاته وخصوصاً المتوسطة والفقيرة، وما زال حتى اللحظة طالما يستمرّ الموقف الخليجي بقيادة السعودية على حاله من القضية السورية والمتاجرة بقضايا النازحين السوريين.
تنعكس العلاقات البينية بين دول العالم والدول العربية على الشرائح المجتمعية في الداخل اللبناني فتجد مجموعة منها متناقضة جذرياً تتبنى موقفاً موحداً لأنّ تركيا وأميركا وفرنسا والسعودية تتبنّى هذا الموقف أو تأمر به، وفئة أخرى تتبنّى موقفاً مناقضاً يصل حدود الصدام والاقتتال كما هو حاصل من توتر بين الفئات الموالية للمشروع الغربي والعربي من جهة مع الفئات التي تقف ضدّه مؤيدة سورية وإيران والحلفاء الآخرين، ولا يمكن المناقشة أبداً في قضية الحق إلى أيّ جانب، الخطأ والصواب ينتفيان في هذه الحالة، والسياسيون لا يناقشون هذا الأمر ولا يهمّهم إن كان اتخاذ القرار يضرّ بالمصلحة الداخلية للكيان أم لا، الأهمّ هو الولاء وتنفيذ الأوامر، وعلى ذات القاعدة تنحو دول الخليج ودول أوروبية في توجهها لإعادة علاقاتها الطبيعية مع دمشق، هذه الدول في موقع المفعول به، حتى أنّ بعض الدول العريقة عبر التاريخ لم تعد في موقع الفعل بل تشكل مفعولاً معه متفاعلاً والقرار الصهيو أميركي متماهياً معه الى حدود الإضرار بمصالحها جزئياً، وما خرجت الدول الأوروبية على قرار العقوبات الأميركية إلا عندما وصل سكين هذه العقوبات إلى الرقبة الأوروبية ليسفح دم مصالحها على مذبح المصالح الأميركية التي لم تعد تأخذ بالاعتبار مصالح هؤلاء الذين امتطت ظهورهم عقوداً من الزمن، لقد أصبح التفاعل الإيجابي مع المواقف الأميركية مستحيلاً لأنّ المطلوب هو الانصياع التامّ، وهذا لا يحسنه إلا بعض الدول ومنها العربية بسبب حاجتهم إلى الحماية تجاه شعوبهم واستمرار حكمهم وتسلطهم، بينما لا يحتاج الأوروبيون كدول وحكام لمثل ذلك.
حتى تركيا يمكنها الخروج على الأميركي وقول كلمة لا بوجه إدارته، رغم معرفتنا وثقتنا بأهمية العلاقة معه لمصالح تركيا، التي يبدو أنها جادة في البحث عن بدائل أو على الأقلّ إقامة علاقات متوازنة مع قرني العالم الغربي والشرقي الذي نما بسرعة مذهلة وبدا قادراً على المناطحة أكثر من أيّ وقت مضى.
كلّ دول العالم تبحث عن تحقيق مصالح شعوبها عدا الدول التابعة والخاضعة والتي يحتاج حكامها إلى حماية خارجية يدفعون أثمانها باهظة من ثروات وقوت شعوبهم، ولا تقبل الإدارة الأميركية دون ذلك الخضوع ولاء آخر، يبدو أنّ تراكم أخطاء هذه الإدارة سيقود إلى كارثة كبرى، فلننتظر نتائج تدخلها في فنزويلا ومنعكساته على وجودها في مشرقنا!